لم يكن إصداري الشعري الأول هو ديواني الأول. ففي عام 1993 أصدرت ديوان (اليد تكتشف)، وقد خلّف وراءه شعراً مما كتبته، ونشرت بعضه صحفياً، منذ عام 1975 ولكن لم يتح له أن يطبع بكتاب وقتذاك، فيما بقيت أنا أؤجل نشره حتى الآن.
لم تكن في البلد سوى جهة نشر وحيدة هي (دائرة الشؤون الثقافية)؛ دار حكومية لها التزاماتها ومحدداتها، لا توجد دور نشر أهلية ولا حكومية أخرى، وبما جعل من النشر في العراق معضلة حقيقية.
في عام 1985 تقدمت للنشر في تلك الدائرة. وحين راجعت بعد شهر مستفسراً عن الموقف من الديوان، فإن السيدة المسؤولة عن تلقي مخطوطات المؤلفين بدت محرجة؛ ناولتني تقريراً وضعه خبيرٌ عن الديوان، كان الخبير (وقد حُجِب اسمه، مع هذا تعرفت عليه من خطه المميز) يطري بتقريره القصائد (جميعها كان من شعر التفعيلة)، لكنه ختم بالقول: (ليس في الديوان ما يحول دون نشره، إلا أنه ليس فيه أية قصيدة عن الحرب، وبما يخالف ضوابط النشر المكرس لخدمة المعركة). لم يشفع إذاً حتى كوني جندياً في أتعس جبهات الحرب ليمرّ ديوان لي. لقد قدّرت الحرج الذي كان فيه الخبير. ما الذي كان يمكن أن يفعله؟ لا ذنب له، إنه موظف ملزم بضوابط لا تقبل الجدل ولا تحتمل الاجتهاد. كانت الموظفة مربَكة وهي تقول لي بمجاملة يائسة:" تستطيع الاعتراض ليحال الديوان إلى خبير آخر، علّه.."! وقبل أن تكمل قدّرت لها مشاعرها، ولم أجد داعياً للاعتراض، فانصرفت بالمخطوط وبنسخة من التقرير ما زلت أحتفظ بهما وذلك بعد سوء تفاهم مع ناقد كان حاضرا حينها في مكتب الموظفة، وقد تدخل، مع الأسف، بما لم يسرني في تلك اللحظة وبما قد يزعجه ويحرجه هو نفسه الآن، تفاجأت فعلاً بذلك الموقف الغريب، وهو ما لن أتوقف عنده هنا. لكن في 1993، وقد انتهت الحرب مع إيران وانتهينا بعدها من حرب الكويت، عملت مع أصدقاء أدباء في مجلة أسفار التي كانت تصدر عن منتدى للأدباء الشباب. كان العمل في المجلة يتمتع بشيء من الحرية ومن التخفف من الضوابط المهيمنة في دوائر وزارة الثقافة. وكانت فكرة جميع العاملين تتركز من أجل استثمار هامش الحرية النسبي لصالح عمل شيء ممكن. هكذا تولّدت فكرة إصدار كتاب شهري مع كل عدد من المجلة ويوزَّع منفصلاً عنها، ولا يمر برقابة الوزارة كما تقتضي ضوابط طبع الكتب، كان الاشتراط الوحيد هو أن لا يكون المؤلف قد طبع كتاباً من قبل.. وفوجئت يوماً باتفاق الزملاء في المجلة على أن يكون لي كتاب ضمن هذه الإصدارات. وبفعل المحبة والتفاهم في ما بيننا فقد كان اتفاق الزملاء أشبه بقرار ملزم لي: لن تبدأ السلسلة إن لم تستجب.
لم أفكر بالعودة إلى ذلك الديوان الأول، فقد انحزت إلى آخر ما كتبت، وهكذا نشرت ديوان (اليد تكتشف) بقصائد مما كتبته بين عامي 1990 و1993، إنه ديواني الأول في كل حال.
في هذا الديوان كان يمكن لخبير الثمانينيات أن يجد ضالته التي حال غيابها دون موافقته على طبع ذلك الديوان الخالي من قصائد (حربية). لكني أتوقع أنه كان سيبدو مضطراً ثانيةً على المنع، فالمهم هو ليس الكتابة عن الحرب؛ إنّما كيف تكتب عنها. فبعض قصائد (اليد تكتشف)، وبخلاف الديوان المرفوض، استعادت أجواءً من حرب إيران. لقد تصدرته العبارة التالية: (لم أكن بعيداً بما يكفي لأعرف، إنني أتذكّرُ الآن فقط)؛ لستِّ سنوات كنت في تلك الحرب، الوجود في أتون الحرب هو غير أن تتوفر للمرء مسافة مكانية تبعده عن المحرقة ليراقب ويعرف، لكن المسافة الزمنية بعد انتهاء الحرب كانت هي المتاحة للتذكر والاستعادة. كانت تلك العبارة مستلة من أحد نصوص الديوان، وكان النص يستعيد بشاعة المعارك في البصرة قرب الأنهار. كان يمكن للمتحاربين العراقيين والإيرانيين أن يتعايشوا إنما جثثاً طافية على وجه الماء، حيث تحيا جثة العراقي قرب جثة الإيراني معاً بسلام يتيحه الموت، هذا هو منطق الحرب وهياجها وطوفان جثثها. لقد كان النص يتساءل: (هل الجثثُ الأمواجُ؟ أم الأمواجُ الجثثُ؟).
لم يكن هذا المنظور هو المطلوب لرؤية الحرب ليكون الشعرُ شعرَ حرب مفيداً. الجثث التي غطت وجه النهر ينبغي أن تكون موضوعاً لإظهار البطولة ليكون الشعر معها شجاعاً صالحاً للاستخدام التعبوي، النظرة إلى الجثة كضحية هي نظرة تريد تكريس الخوف ليتولد عنها شعرٌ متخاذل يجب أن يكون ومؤلفه موضعَ ارتياب. هذا هو منطق إعلام الحرب حيث أُريد للشعر أن يكون جزءاً من نفايات ماكنة إعلامية. كان من حسن حظ الديوان أن صورةً تكرّست عنه صحفياً بعد صدوره تفيد بأنه ينحاز لما هو تأملي وذهني. وكانت هذه الصورة تدعو إلى الاطمئنان على كثير مما لا يدعو إلى الاطمئنان، في الأقل تضمّن الديوان أكثر من نص كان قد مُنع نشره صحفياً، ولا أدري لماذا المنع، سابقاً وحتى الآن لم أخطط من أجل كتابة ممنوعة، لكن ربما لم أتحاشَ ما يوجب المنع.
كتبت مؤخراً عن دوافع وظروف كتابة بعض قصائد الديوان؛ ليس بينها قصيدة لم تبدأ من تجربة معيشة أو مشاهدة خاطفة، إنما هي تجارب ومشاهدات تكتفي بأثرٍ ما تخلّفه على جسد القصيدة بينما يمضي الشعر حراً من دون أي التزام إزاء مصدره الواقعي. في بداياتي السبعينية كنت أتساءل عن كيفية كتابة الشعراء عن تجارب عاشوها؛ الشعر لا يحتمل هذه (القصدية) في الكتابة، هكذا كنت شاباً مبتدئاً أسوّغ الطموح الذي كان يذهب بي إلى أهمية تخليق عوالم لا صلة لها بحياة الشاعر ويومياته. لكن مع التقدم في بؤس الحياة ومواصلة الشعر بين مراراتها فإن حرية الشعر نفسها هي ما تعود بالشاعر إلى حياته، إلى عالمه الداخلي، وقد تضمخ بالأثر الحي والمميت للحياة وتقلباتها. وكما أني لم أتعمد عدم الكتابة عن الحرب في قصائد الديوان المرفوض فإني لم أخطط لحضور الحرب في هذه النصوص؛ لم أسع إلى استعادتها؛ الحرب، بأثرها الداخلي العميق، هي ما بدأت وما زالت تظهر عبر أكثر من نص وإن لم تكن الحرب موضوعاً له.
نقدياً تمتع الديوان باهتمام منذ أشهر صدوره الأولى. لقد نشرت عنه داخل العراق وخارجه أكثر من خمسين دراسة ومتابعة خلال عامه الأول. بعد أعوام على صدوره أشار الناقد الراحل عبدالجبار البصري إلى هذا الاهتمام في واحدة من جلسات المربد النقدية حين قال ببحث منشور: (لقد كُتب عن ــ اليد تكتشف ــ وعن ديوان ــ السائر من الأيام ــ لمحمد النصار مالم يكتَب عن أي ديوان آخر، وكما لو أن لدينا قائمة بالكتب الأكثر مبيعاً وهما يتصدرانها). وفعلاً فإن النسخ الثلاثة آلاف المطبوعة من الديوان نفدت خلال شهرين بتوزيع لم يتجاوز العراق فقد كان ممنوعاً تصدير أي شيء بموجب قرار الأمم المتحدة، من النفط والتمر حتى الشعر.
واقعاً جرى استقبال هذا الديوان، ومعه دواوين زملاء آخرين صدرت بالسلسلة ذاتها، بحماسة كبيرة من الشباب ومن النقاد والشعراء الطليعيين. كان الديوان يسعى إلى حساسية شعرية بدت جديدة في الشعر العراقي حينها؛ فهو يقف على مسافة بعيداً عن الشعر التعبوي الذي حطّم أعصاب الناس، وهو أيضاً ليس قريباً من فوضى تدمير المعنى الشعري التي كرسها كثير من التجارب الأولى الثمانينية لقصيدة النثر التي أقصت الشعر حتى عن آخر بقايا قرائه.
تقنياً، كانت السمة الأبرز في قصائد الديوان هي التركيز على الكثافة التعبيرية. كانت النصوص تريد اختصار كل شيء بجمل برقية لم تراع حتى بناء الجملة العربية، (الجنون أو العائلة) هذه جملة في أحد النصوص. قلت مرّةً عن هذه الطبيعة التعبيرية إن الخوف يفرض تقنياته على القول. من المهم أن تعكس الكتابة آثارَ خوفها تقنياً بدلاً من أن تسلم تعبيرها للخوف. ساعدني بهذا أني مع بداياتي كنت أعتني بالاختصار وتفادي فائض الكلام. لا أحب النصوص الطويلة، إنها غالباً ما تستدعي زوائدها.
ربما ساعدتني دراستي العلمية (لم أتمها) في التركيز على هندسة النص وتخليصه مما هو فائض.
لقد انفتحت الدواوين التالية على مجالات تعبيرية أكثر وضوحاً وأغزر تنوعاً لكنها ظلت أمينة لمبدأ الكثافة التعبيرية ما لم أتوهم هذا طبعاً.
يجب أن أشير إلى أن (اليد تكتشف) واجه في أسبوعه الأول مشكلة عاصفة كان يمكن لها أن تمزّقه وتمزقني معه، لكني نجحت في أن أسجن تلك العاصفة في زاوية في ذاكرتي، لا يسع المجال المتاح للمرور بها. لقد عدت إلى تلك العاصفة الحبيسة قبل أيام وحررتها من سجن الذاكرة لأودعها في جانبٍ من كتاب آمل أن يُطبَع قريباً.