مع كل ذكرى لثورة تموز 1958 تظل شخصية الزعيم عبدالكريم قاسم محور جدل واختلاف وحتى تشاتم بين مؤيدي الثورة وخصومها.
واقعاً أن النظر إلى الثورة يجري تحميله بالكثير من انقساماتنا الراهنة، ودائما ما نستثمر الماضي، القريب منه والبعيد، من أجل تشغيله لتسعير انقسامنا وتمزقنا.
هل نحن منقسمون بسبب الماضي أم أن الماضي رهين انقساماتنا وأسير لسوء استخدامنا؟.
لا فرق، حقيقةً، في ذلك.. من يمتلك إرادة التكاره والعزل والانقسام يستطيع أن يجعل من كل شيء، طواعية وعنوةً، وسيلة من أجل تبرير الكراهية وتشريع التمزق.
ومن الحقيقة أيضاً أن أحداً منا لا يستطيع فرض صيغة واحدة للنظر إلى الماضي ولا تقرير أسلوب واحد في التعامل معه.
الماضي هو الصامت الوحيد الذي يتكلم بالنيابة عنه ألف صوت في وقت واحد.
الحكم على الماضي دائماً هو صورتنا نحن الحاكمين عليه، لا صورة مناسبة للماضي سوى الماضي نفسه.
صور الزعيم قاسم الراهنة هي صورنا التي نُلبسها ملامحَ الزعيم وبعضاً يناسبنا من تفاصيل حقيقية أو متوهمة من حياة رجل راحل.
صور الثورة التي نقدمها هي صور رؤيتنا لحاضرنا وقد بثثنا فيها وقائع وأحداثاً مجتزأة من ذلك الماضي الميت، ماضي ثورة وشعب وبلد.
إنه ماضي بلد وشعب لم يكن مرة حراً في خياراته ولا في مصيره، وهكذا نأتي نحن الحالمين بحرية خياراتنا ومصائرنا، وبدلاً من أن ننشغل بهذه الخيارات والمصائر بما هي عليه، ننشغل عنها لنلتفت إلى الماضي مهللين أو مجدفين..
إننا نبحث عما يعزز ثقتنا بأنفسنا وبخياراتنا وليس أمامنا ما يستحق الثقة، فنلتمسها من الماضي، الماضي الذي نأتي به عنوةً، ونصنع منا تمثال إله لنطيعه، أو شبح شيطان لنرجمه.
ضعفنا إزاء حاضرنا نستقوي عليه بمرجلتنا على الماضي أو بخضوعنا له. نتساوى، عواماً ونخباً، في هذين المرجلة والخضوع الفارغين من الرجولة.. الماضي مجرد من وسائل تخويفنا لتردع مرجلتنا.
لو كانت لدينا نخب واثقة ولها قوة وفاعلية الحكم التخصصي الجازم لساعدت في لجم هذه الهراء الذي يتكرر كل عام ومعه تتكرر هزالة غياب صورة قومية راسخة لنا عن ماضينا، ماضينا الذي يتقدس أو يهان بقليل من الاستهتار وبكثير من اللاشعور إزاء مسؤولية إطلاق الكلام على عواهنه.
نحن كثيراً ما نخضع لقوة الحاضر، سلباً وإيجاباً، وكثيراً ما نتصرف بهياج يتماثل ويستجيب لهياج الوضع العام الذي نكون فيه.
تكلمْ عن عبدالكريم قاسم وعن ثورة تموز وسأقول لك بالضبط من أنت ومن أي موقع تتكلم.
كلامنا عن قاسم وعن الثورة هو ليس تعبيرا عنهما، إنه تعبير حقيقي عن محنتنا في تقديم أنفسنا بهويات مزورة نريد الاختفاء وراءها.
شتم هذا الماضي أو اطراؤه هو الهوية المزورة التي تستر خوفنا من الظهور بهوياتنا الشخصية الحقيقية..
نحن قوم يستترون دائما بالشتيمة أو بالثناء.