كثير من الجدل الدائر بشأن تقابل مفترَض بين الدين والعلمانية هو جدل لا ينطلق من قاعدة صحيحة.
الدين يقابله اللا دين، بينما تقابل العلمانيةُ الثيوقراطية.
اللا دين لا يعني العلمانية؛ بين العلمانيين مؤمنون، كما بينهم مَن لا يؤمنون.
الثيوقراطية هي أيضاً لا تعني الدين.. سلطة رجال الدين، أي دين، لا تعبّر دائماً عن دينها تماماً. ولهذا يغيب عن دعاة الدولة الثيوقراطية أن الأنظمة الثيوقراطية أو شبه الثيوقراطية الحالية لا يقدم أيٌّ منها مثالاً خالصاً عن أحكام الدين.. فالوقائع على الأرض وتصاريف الحياة تفرض على السلطات الدينية، من أي دين كانت، أن تركز على جوانب وتغض الطرف عن أخرى كثيرة. هكذا يكون النظام الثيوقراطي نظاماً لحكم رجال دين وليس بالنتيجة لحكم دين.
وبهذا قد يخرج على مثل هذا النظام حتى رجال دين آخرون لا يقتنعون بالمبادئ التي ينطلق منها زملاؤهم الحاكمون باسم الدين أو بالإجراءات التي يتخذونها بالاسم نفسه، وبهذا تجري إساءات للأديان بأسماء الأديان نفسها.
يحصل هذا حتى لأفكار غير دينية حين توضع في مختبر السلطة، كما حصل للماركسية مثلاً حين جرى (تجميدها) بأنظمة حكم حملت اسمها. سياسياً يقابل النظام الثيوقراطي ويعارضه نظام علماني مدني. العلمانية، ومن خلال قيم الدولة المدنية، تساعد الأديان من تفاقم صراعات ابنائها المختلفين في ما بينهم على شكل مذاهب وأديان وملل ونحل متنوعة، وتضبط هذه الاختلافات عند حدودها الفكرية العقائدية، وتساعد الأديان من تعسف السياسيين المناوئين لها، كما تساعد الأديان من تطرف الحاكمين باسمها ومن التشوه الذي تتعرض له الأديان جراء ذلك.
الجدل الدائر حالياً جدل غير منضبط بقيمة فكرية برغم أنه يتصل بقضايا الفكر والاعتقاد.
إنه جدل يبدو أنه لا يراد به، أحياناً كثيرة، سوى الدفع باتجاه تصوير العلمانية على أنها التفكير الملحد.الدافعون بهذا الاتجاه هم من طرفين متناقضين؛ أنصار نظام الحكم الثيوقراطي يسعون لأسباب سياسية من أجل ترسيخ هذا التصور لدى عامة مؤمنة من جانب، بينما يساعد هؤلاء الثيوقراطيين من جانب آخر ملاحدة فوضويون يقدمون إلحادهم بالهوية العلمانية.
العلمانية ليست إيديولوجيا سياسية ولا هي تصور فلسفي للعالم والكون والحياة، إنها نظام تفكير اجرائي وأسلوب إدارة حياة يمكن أن يأتي ويقدم نفسه بأكثر من عقل ومن فكرة.
ليبراليون ومحافظون، يمينيون ويساريون.. ملكيون وجمهوريون، عسكر ومدنيون، اشتراكيون ورأسماليون، مؤمنون وملحدون.. وسوى كل هؤلاء كثيرون متنوعون فكريا وسياسياً يؤمنون بهذه الدرجة وبتلك بقيم العلمانية ويعملون من أجل دولة علمانية. ليس هناك من قياس مسطري ثابت للكيفية التي يكون عليها نظام حكم ما علمانياً.
لكن الديمقراطية وحدها، حتى الآن، ما يمكن أن تساعد على احترام علمانية الدولة وتساعد العلمانية على أن لا تكون اقصائية متعسفة.