يحصل في الوظائف الحكومية الكبرى منها والصغرى أن تصادف شخصيات لها تفكير غريب في قضايا فكرية عامة سواء مما له بالاعتقاد أو بالنظر إلى مختلف جوانب الحياة والتفكير، وقد يرى مختلفون أن هذا التفكير غير منطقي..
المثال الأقرب أمامنا لشخصية (غريبة التفكير) هو السيد ترامب الذي يمكن أن يكون رئيسا للدولة الأعظم، وحتى وهو بوضعه الحالي فهو (رمز) سياسي كبير في دولة كبيرة.
الغريب في التفكير هو ما يخرج على قناعات سائدة وتبدو أنها مسلّمات. الكثير من هذا التفكير الغريب يندثر ويتلاشى مع مرور الوقت، لكن كثيراً أيضاً ما تكون تلك القناعات السائدة هي الأخرى عرضة للاهتزاز وحتى للتغيير نتيجة اصطدامها بتصور مفاجئ وصادم في حينه، ثم لا يلبث هذا الصادم، حين يجري قبوله ويكتسب المنطقية، حتى يكون جزءاً من قناعات سائدة مهما طال الزمن عليه.
التفكير هو حرية المرء وحقه الشخصي طالما كان تفكيراً وتعبيراً عن رأي.
ليست هناك قيود على هذه الحرية حين يجري ترشح الموظفين أو المنتخبين إليها.
للوظيفة مؤهلات ومهارات وخبرات من المفترض أنها هي وراء قبول أو عدم قبول أي مرشح للظفر بالمنصب.
المرء المكلف بخدمة عامة له حقه في التفكير في قضايا أخرى عامة أو خاصة. هذا حقه الشخصي كإنسان ولا يتداخل هذا الحق، سلباً أو إيجاباً، مع عمله الوظيفي كما لا يعاقب ولا يثاب على عمله بموجب قناعاته الفكرية طالما لم تمس ولم تعق أداءه.
ينجح المرء في الوظيفة، مهما كان مستواها بمقدار ما ينجح في استخدام مؤهلاته وبحسن إدارته للعمل، وبالفصل تماماً بين قناعاته الفكرية العامة وبين عمله المحدد بقانون هو ملزم بالتقيد به.
في ضوء هذا كان يمكن التعامل مع تصورات وزير النقل عن الحضارة السومرية حين حديثه عن مشروع مطار في الناصرية.
الكلام الكثير الذي أثير ضده كان يحمل دوافع متباينة، وهذا غير مهم، فكل شخصية عامة هي في موضع رصد وتصيّد المختلفين معه، وستكون خبرة التعامل مع الإعلام حاسمة هنا لتفادي الراصدين.
لكن كان يمكن للكلام ضد الوزير أن يكون أقل وطأة لو أن بعض المتكلمين تفهم حق المرء بالتفكير والاقتناع والاعتقاد، وجرى تفهّم أن هذا الحق لا يمنع أن يكون صاحبه وزيراً أو رئيساً أو موظفاً بسيطاً في متجر لبيع المواد الغذائية.
ومن جانب الوزير كان متوقعاً منه في مثل المناسبة التي كان يتحدث فيها أن يركّز في حديثه على مشكلات حقيقية تعصف بقطاع النقل وعن أهداف واقعية لتجاوز هذه المشكلات.
تقليب التاريخ دائماً ما يكون مصحوبا بإثارة عواصف تظل مقيَّدة وتنتظر من ينفّس لها لتعبر عن شدتها، ومن المؤسف أن من يباشر هذا التنفيس غالبا ما يكون هو أشد الضحايا تضرراً به.