زرت قبل أيام ضابطاً كبيراً، هو آمر لواء في الشرطة الاتحادية. كان في المستشفى حيث يرقد جريحاً. أبلغني شقيقي بالحادث ليلاً، في الصباح كنت وإياه في المستشفى.. لقد استيقظ الجريح قبل قليل، بعد ليلة أُجريت فيها عملية جراحيه ناجحة لفخذه، وهي واحدة من سلسلة عمليات أجريت وستجرى له.
وفيما كنت اطمئن على صحته أثار انتباهي انشغاله بجهاز التلفزيون الذي كان أمامه، كان لحظتها يستخدمه لمشاهدة تصوير فيديوي.
لقد أنسانا كل شيء عن إصابته، فيما كان الرصاص ما زال في مناطق متفرقة من جسده.
كنت جنديا في الجيش فتساءلت مع نفسي كيف لآمر لواء أن يطوله (رصاص بندقية خفيفة؟)
فعرفت أن هذا ممكن فقط حين يكون آمر اللواء في طليعة جنوده، متقدما في الاقتحام، غير هيّاب في المواجهة، مقدِّما المثال لمن معه عن البسالة والشجاعة في المعركة حين لا خيار فيها سوى الشجاعة والنصر.
لم يصب هذا الضابط بشظية مدفع أو بطلقة من بندقية متوسطة بعيدة المدى، لم يصب برصاصة قناص؛ كان جسده هدفاً لرصاص بندقية أو بنادق خفيفة في مواجهة مباشرة مع الارهابيين الذين اقتحم عليهم وكرهم ليحرر المكان ويقضي على من فيه من قتلة مجرمين.
لم أسمع هذا الكلام من الضابط نفسه.. لقد عرفته في ما بعد من بعض جنوده ممن أصروا على أن يبدأوا إجازاتهم بزيارة آمرهم في المستشفى حيث يرقد.
حين كنت أسأله أثناء الزيارة مستفسراً منه عما تعرض له فقد كان يتفادى شرح التفاصيل، مكتفياً بابتسامة ظلت تملأ شفتيه كلما استغرق بالحديث عن بطولات قواتنا في المعركة التي يواصلونها بشرف وكبرياء.
قبل زيارتي له كان قد مضى عليه أسبوع في المستشفى وقد عرفت أنه خلال الأسبوع لم تنقطع صلته بوحدات لوائه، ولا عن تطورات المعارك التي يخوضها اللواء بعده.
جهاز التلفزيون الذي كان أمامه كان ينقل له جانباً من تفاصيل ما يحصل، وبما يوضح تقدم قواته في القرى والمناطق التي يحررها. إنه يحرص على تلقي فيديوهات من تلك القوات، فيما كان هو يبعث برسائل فيديوية لجنوده وبما يشد من أزرهم ويعزز معنوياتهم في معارك يواصلونها منذ أشهر.
من أطرف ما وقفت عليه أنه توقف بالفيديو عند جندي شاهده في المعركة، فسأل زملاء الجندي: ألم يتزوج محمود قبل اسبوعين؟
تستطيعون أن تملأوا مكانه، كلكم أبطال، ليذهب إلى زوجته مجازاً، (مو عيب عليكم).
كان يعرف أسماء الجميع، وكان صديقاً وقائداً للجميع.. قبل أن أغادره متوجهاً إلى عملي لاحظت للمرة الأولى مسحة حزن على محياه.
ففيما تمنيت له الشفاء والعودة معافى، قال لي: سيطول الوقت لأعود إلى مكاني في المعركة.. الأطباء يقولون يستغرق الشفاء شهراً.
ما أطول الشهر على مقاتل مؤمن بقضيته!