رنّ هاتفي برقم مجهول فكان المتصل صوتاً لم أخطئ تمييزه بعد أول تحية منه، إنه صديق عزيز شاعر موصلي.
لم نتحدث بأي شيء في ذلك الاتصال؛ كان الوقت مساء الخميس، اتفقنا على موعدٍ في جمعة شارع المتنبي. من النادر أن أكون هناك، لكن هذه مناسبة يجب من أجلها أن أكون في المتنبي.
قبل أشهر وصل الصديق إلى بغداد.
تمكن من ذلك بصعوبة وبتركه رهائن لدى الدواعش. التقينا حينها بمساء صيفي، كان حائراً بين أن يبقى في بغداد وبين أن يعود تحسباً على ما ترك من رهائن.
لم يستطع أيٌّ منا، نحن أصدقاءه في بغداد، نصحه. كنت أثق برجاحة عقله، لذلك حسمت الحيرة بالقول: لا أحد يستطيع تقدير الحال بأفضل مما تستطيعه أنت، كل ما نستطيع قوله إن التحرير قريب.
كان بيتُه في الجانب الشرقي من المدينة، وكان يقضي أسابيع لا يستطيع فيها بلوغ حديقة منزله، إنه رهين غرفته تفادياً لأي احتكاك مع زعران داعش ولما يمكن أن يجرّ إليه من تداعيات محسوبة وغير محسوبة.
تحدث لنا عن فظائع يعيشها الناس في جهنم الإرهابيين.
كنت أركز على موقف المواطنين في حال بدء تحرير المدينة، وكان يؤكد أن المواطنين ينتظرون وصول الجيش وتحريره المدينة ومهما سيكون الثمن.
بعد ذلك اللقاء كتبت عن جانب من هذه المعلومات السارة بمقال حاولت فيه تفادي أي أثر يمكن أن يشير إلى لقائي بمواطن موصلي ببغداد خوفاً عليه وعلى أي مواطن يتمكن من بلوغ العاصمة، إنهم يعودون إلى سلطة المجرمين وكان يجب الاحتراس من أجل سلامتهم.
كان لقاؤنا ذاك مؤلماً حقاً؛ صديق آتٍ من جهنم وها أنا لا أقوى حتى على نصحه بالامتناع عن العودة إلى جهنم، بيته وعائلته هم الرهائن لدى مجرمين لا يرف لهم جفن وهم يولغون أيديهم وضمائرهم بأبشع الجرائم.
حينما عاد إلى مدينته لم ينقطع القلق على مصيره لحظة واحدة.
التلفون الذي تلقيته منه مساء الخميس وحده الذي وضع حداً لمخاوف بقيتُ وبقي الأصدقاء نخشى بها على مصيره، وهي مخاوف اقترنت بتأنيب ضمير: لماذا لم ننصحه بالبقاء؟
لم يكن الصديق الشاعر وحده في جمعة المتنبي، كان معه صديق آخر كاتب من المدينة، ومن جانبها الغربي بالتحديد.
الشاعر من حي جرى تحريره والكاتب من حي ينتظر هذه الأيام تحرره.
وكلا الصديقين لم يتحدثا عن وحشية داعش، ثمة ما هو أهم وينسيهما ما حصل، ذلك هو السعادة التي كانا يتحدثان بها عن معجزات الأبطال في مقاتلة داعش، وعما يخلقونه من مآثر عظيمة في التحامهم بمواطنيهم الموصليين.
كل بيت موصلي يريد أن يحتضن الجيش كله.
كل موصليٍّ يريد معانقة رجال التحرير بحضن يسع الجميع.
يمكن للعراق الواحد أن يبدأ من هذه اللحظة وهذه المشاعر.