كنتُ في مطلع العشرينيات من عمري حين فاجأني ذات مرة صديقٌ شاعرٌ بسؤال: " .. ولماذا لا تكتبون شعراً عن الحب، وأنتم شبّان وطلبة جامعة؟".
كنّا ساعتها في مساءٍ نتمشى عند كورنيش شطّ العرب في البصرة باتجاه (الخورة) جنوباً بعد خطوات من اجتيازنا تمثال بدر شاكر السياب.
كان الشاعرُ المتسائل أكثرَ خبرةً مني حينها بالشعر والمعرفة، وهو يكبرني ويكبر مَن كان معنا من شعراءٍ شبان بسنوات قليلة لكنها كثيرة بمقاييس الفارق في عمر الشباب. برغم هذا الفارق إلا أن الصديق الشاعر يظل هو أيضاً شاباً فقد كان في سنواته الثلاثينية.
لماذا لم يكتب هو شعراً خالصاً للحب؟ لا أعتقد أنه كان يسائل نفسه بسؤاله الموجّه إلينا باستغراب يخفي معه شيئاً من الأبويّة.
لا بأس في هذا التساؤل والاقتراح وحتى بأبوبيته المغلَّفة؛
أحياناً يكون من المفيد أن يقترح شاعرٌ على آخر الكتابةَ بما لم يكتب هو فيه.
لم أجد ما أردّ به على الشاعر. لم أعرف حقيقةً لماذا لم نكتب عن الحب..
هل يكفي المرءَ، حين يكون شاعراً وشابّاً، أن يحيا الحبَّ أو يفتقدَ إليه ليكتبَ فيه القصائد؟
لم يتكرّس في الشعر العراقي جهدٌ واضحُ لشاعرٍ خلال القرن العشرين في موضوعة الحب، ولعلّ الأبعدَ من هذا هو في الانصراف شبه التام أيضاً عن أيِّ اهتمامٍ رومانسي راسخ في هذا الشعر..
بعضُ قصائد الحب وبعض الرومانسيات المائعة لدى هذا الشاعر أو ذاك لم تكن كافيةً لتمييز اتجاهٍ في المجالَين وسط انشغالات كثيرة ظلّ الشعرُ والشعراء العراقيون معنيّين بها، وتشكّلت من هذا اتجاهات وتجارب واهتمامات كانت هي المعطى الأبرز للتعبير عن طبيعة الشعر العراقي، وبهذه المعطيات كان الشعرُ في العراق أقربَ إلى قسوة الألم منه إلى رقة مشاعر الحزن.
الشعر كائن حي منفعل بالظروف التي يولد فيها.
هذه نتائج لأسباب كثيرة لكنها لا تكفي لأن تكون مانعاً عن كتابة شعرٍ في الحب من قبل شعراءٍ هم في مطالع شبابهم وحياتهم وتجربتهم.
موضوعة الحب توفّر إغراءً جاذباً للكتابة الشعرية، وسيكون من الصعب التمنّع على هذا الإغراء، وقد يبدأ الشعر لدى كثير من الشعراء من لحظة حب، العواطفُ الشخصية دافعٌ مهم لهذه البدايات، لكن واقعاً بقي الحبُّ اهتماماً ثانوياً للشعر العراقي.
الشعر يُكتَب بناءً على نداءات داخلية، تلبيةً لما تضغط به دخيلة الشاعر عليه، وليس استجابة لإغراء خارجي. والتمنّع على هذا الإغراء بطبيعته الخارجية والنفعية هو تعبيرٌ عن قوة دواخل الشاعر وعن شدّة إخلاصه لدواخله.
يحصل أحياناً أن يتمنّع الشاعر حتى على بعضٍ من نداءاته الداخلية فلا يستجيب لها، لا يجد لديه ما يستجيب به لتلك النداءات.
الشعر هو أيضاً له مزاجه وإرادته اللذان لا يتناغمان بالضرورة مع إرادة ومزاج الشاعر في لحظة ما.
في مثل هذه الحالات التي لا يتوافق فيها المزاج والشعر لا يكتب الشاعر، يجب أن لا يكتب.
خبرة الشاعر تؤهِّله لأن يكتبَ متى ما شاء، كثيرٌ مما يُكتب بموجب هذه الأهلية سيكون ملفَّقاً، وقد يسمّيه النقد العربي (نظماً)، لكن الكتابة الحقّة هي تلك التي تلتقي فيها الإرادتان؛ إرادة الشاعر وإرادة الشعر، وإرادة الشعر شأنٌ غامض ربما يمكن التعبير عنه بما يكون الشاعر مؤهَّلاً به من روح الشعر وعناصره وأيضاً بما تكون عليه لحظة الشاعر من ظرف يؤهله ليكون في الشعر، في عالم كتابة القصيدة.
هذا بعض امتيازات الإخلاص إلى التجربة، في الحياة والشعر، وهو من نتائج الصدق مع المعاناة ومكابدة التعبير عنه.
تجربة السياب، بجانبيها الخلّاق والمحطَّم، كانت تعبيراً صريحاً وحيّاً عن تلك النتيجة برغم كل ما قيل عن المرجعيات الرومانسية الإنكليزية والعربية للشاعر الرائد.
لقد تجاوزنا تمثاله في ذلك المساء، وحين افترقنا عن الشاعر السائل، ولم يسمع جواباً، انصرفنا نحن الشبّان بعيداً عن الكورنيش وشطّه وعن (الخورة) وكان فيها متنزه لطيف، فقد مضينا فجأةً باتجاه (سينما الوطني) فيما عاد هو باتجاه التمثال، فضاعا معاً (صديقنا الشاعر المتسائل وتمثال الرائد الراحل) عن نواظرِنا في الظلام الذي صار فاصلاً في ما بيننا.
في تلك الليلة، وبعد سينما الوطني، عدت إلى سكني الطلابي وهناك كتبتُ قصيدةً كان عنوانُها (الشيوخ والقطارات) بوحي من الفيلم الذي شاهدناه.
لم أكتب عن الحب في تلك الليلة، ولم يمكث ببالي تساؤل الشاعر، لقد كانت القصيدة، من حيث طبيعة موضوعها، تبدو كما لو أنها لشاعرٍ هو أكبر بعقود من ذلك العمر الذي كنت فيه حين كتابتها.
لا أحسب أن شاعراً جاداً يستطيع في لحظة ما أن يقرّر كتابة قصيدة جادة لغرض ما أو في موضوعٍ ما يأتي إليه مباشرة وبتخطيط مسبق.
لا أسهل من النظم على أي عارفٍ بأدنى متطلبات الشعر، لكن أتوقّع أن هذا (النظم) وهو تأليف الشعر بقصدية وتخطيط وبلا أي انفعال هو أصعب بكثير من كتابة قصيدة ناجحة وذلك بالنسبة لشاعر جاد.
الشعر ودواعي كتابته أعقد بكثير من هذه الغرضية التي تبدو نفعية، ولعل أنجح القصائد وأقربها إلى قلب الشاعر هي التي تفاجئ شاعرَها، قبل سواه، بموضوعها وبمصادفتها وبالنتيجة التي خلص من خلالها إليها، إنها نتيجةٌ غير متوقَّعة وما كانت في الحسبان.
هذه هي النتائج التي تتحصّل حين يكون الشعر وإنتاجُه حاجةً حقيقية، وقد لا تكون الحاجةُ مفهومةً؛ ما يمكن فهمه وإدراكه عقلياً لن يجد طريقه يسيراً إلى الشعر. الشعرُ نتيجةٌ واضحة لدوافع غامضة.