صار لي كثيرٌ من السنوات لم أتابع خلالها نشرة أخبار كاملة على أيٍّ من الفضائيات. أمرّ يومياً على بعض المواقع الإخبارية الإلكترونية مما أثق بها، ولو نسبياً، وكانت تصفّحي اليومي القصير فيها يعفيني من وجع الرأس الذي عادةً ما باتت تصدّعنا الفضائيات به. لكن نهار الأحد الماضي كنت في ضيافة صديق، وتفاجأت بخبر تفجيري الإرهاب ضد مصر.
كان التلفزيون على قناة فضائية غربية، وكان المذيعان يواصلان تقديم تطورات الوضع بعد التفجيرين ثم يعودان ليتصلا ويتحدثا مع محلّل من مصر نفسها. كان المحلل المصري وكيل وزارة سابقا في الداخلية المصرية، وكان دقيقاً وذكياً في إجاباته، لقد كان فيه من الظرافة المصرية المحببة ما لم يتخل عنها حتى في هذه المحنة. لم تكن ظرافته لتوحي بعدم شعور الرجل، بالمسؤولية الإنسانية في الأقل، إزاء ما حصل، بقدر ما كان يغالب بتلك الظرافة حماقة المذيعَين وهما يستمران ليؤكدا على ما سمياه بـ (الخرق الأمني)، ولم يكن صعباً على أي مشاهد أن يتوقف عند حقيقة أنهما كانا يريدان، بتأكيدهما اللجوج على (الخرق)، الإيحاء بمسؤولية رجال الأمن عما حصل للكنيستين. هذه مهمة سياسية يتنازل بموجبها الصحفي عن مسؤوليته المهنية ويتكفل بمهمة أخرى وهدف آخر؛ ثمة هدف يراد تأكيده وفرضه على المشاهد باعتماد تكراره بهذه الصيغة الإيديولوجية المفضوحة. يجري، بموجب هذا المنطق، إهمال الجريمة والمجرم، وتركيز الاهتمام كله على زاوية كان من غير المعقول الانشغال بها بمثل هذا التركيز. من غير المعقول طبعاً أن لا يدرك المرء المشاهد والمستمع لهذه القناة ولسواها أن ما حصل هو (خرق أمني). لكن ما معنى (الخرق) بمثل هذه الظروف التي يأتي بموجبها بهيمة بشرية ويفجّر نفسه بجموع مدنية وبمكان مقدس؟
ما قيمة أن يحصل المذيعان من ضيفهما المصري على اعتراف منه بـ (خرق أمني)؟
ما الذي يعني المشاهد من هكذا اعتراف؟
في نيويورك وواشنطن ولندن وباريس وبرلين وموسكو ومدريد واسطنبول وسواها الكثير من مدن الأرض حصل مثل هذا الـ (خرق)، لكن لم يجر الحديث لحظة حصول أي تفجير في تلك المدن عن (خرق أمني)، لم يجر إهمال المسؤول عن الجريمة والانشغال عنه بالبحث عن مشجب لها في دائرة رجال الأمن. ليس في هذا تبرير لتقصير أمني محتمل. إنما الانشغال بهذا هو تعبير عن فحوى سياسية صارخة بتنازلها عن المشاعر الإنسانية ومستهترة بسوء استغلال عملها الإعلامي لصالح هدف سياسي يمكن القول معه أنه ليس بالبعيد كثيراً عن الهدف الإرهابي من التفجير. وفي الإعلام ما أكثر ما وقفنا على أدوار يكمل فيها مذيعون بوجوه بلاستيكية ما قد يعجز عن تحقيقه الإرهاب بأبشع جرائمه.
بعد ربع ساعة من الحديث المباشر مع المحلل المصري رجوتُ مضيِّفي تحويل التلفزيون إلى قناة أخرى أو إغلاقه ما لم يكن هو محتاجاً إليه.