فعلاً فقد كان معي في واحدة من الانتخابات التي حصلت بمثل هذه الأيام من عام مضى (لم أعد أذكر أي عام كان وأية انتخابات).
إنه حفيدي، حين كان بعامه الرابع.
أطالع بالمصادفة صورته في تلك الانتخابات فيراودني شعور بالخجل منه مستقبلاً، حين يكبر؛ أتوقع أنه سيبادرني بأسئلة وسأحار أنا بالإجابة عليها.
من السهل القول والتبرير بعدم مسؤوليتنا عما آل إليه الحال.
نحن أجيال خرجت من أتون القمع الشمولي والحصار والحروب وما نجم عنها من بدايات تحلل مظاهر المدنية والدولة على هذه الأرض، وكان حلمنا أن نقف على بداية جديدة لعراق أردناه جديدا، وها نحن ننتهي من تلك الأحلام إلى حال ليس بالجديد كما أردناه وليس هو بالعراق كما تمنيناه.
من السهل التبرير لما حصل من اندفاع مريع نحو التدمير لكن الإقناع لن يكون بالضرورة متاحاً؛ كيف تقنع جيلاً فتح عينيه على الدنيا بلا دكتاتورية ليجد نفسه في حياة لا تقل سوءاً ورداءةً عما كانت عليه؟
ربما كنا واقعيين حين فكرنا أن ما سيأتي وما سيحصل من تغيير لن يكون لنا (نحن أبناء الأجيال الآفلة) منه شيء، لكن الطامحين منا حلموا بأن يكون ذلك لأبنائنا فيما كنتُ ممن توقعوا أن النتائج بخيرها وسلامها ستكون من حصة الأحفاد الذين كانوا بمهادهم أو ممن ما زالوا نطفاً في ظهور أبنائنا.
هؤلاء الأحفاد هم الآن على مقاعد التعليم الابتدائي، وليس في واقع التعليم ولا واقع الحياة كلها ما ينبئ بأية صورة يمكن أن تكون مقاربة للمستقبل كما كان في خيالاتنا نحن الأجداد.
كنت في الستينيات بعمره تلميذاً ابتدائياً، لكن الفارق شاسع بين نضج مدرستي ومعلمي آنذاك وبين الحال الذي يتلقى فيه حفيدي تعليمه الآن.
كنت أريده أن يتدرب على (الحياة الديمقراطية) لذلك كان معي في ذلك النهار الانتخابي الساخن والخطير باحتمالات التفجير في كل لحظة ومكان.
إنه حفيدي الذي كنت آمل له حياة أفضل من تلك التي عاشها جدّه وهذه التي يحياها أبوه.
هو مَن أصرّ على أن يلوّن إصبعه قبل أن أحرضه أنا على ذلك؛
بدا الأمر له مثل لعبة سيتباهى بها أمام أقرانه، فلم يغادر المكان قبل أن يدس إصبعه في المحبرة.
في اللحظة التي فكرت فيها بأخذ حفيدي للمركز الانتخابي كان كل ما يخامرني من تفكير هو أن يحتفظ بصورته طفلاً بأصبع ملونة بحبر الانتخابات ليظهرها مستقبلاً متفاخرا بها أمام أبنائه وربما أحفاده بأنه كان طفلاً مشاركاً بالتأسيس للديمقراطية العراقية، كنت أريده طفلاً مؤسِّساً.
كان الأمرُ فعلاً أقرب إلى اللعبة إنما كان مأساة..
أخذ الطفل منها لون حبرها الأزرق، وأخذ الفاسدون بها مليارات الشعب ومستقبله، فيما أخذ الإرهابيون معها لون الدم الأحمر وسفحوه في كل شبر.