و(الداعشية) هي نمط من التفكير والسلوك البشري قائمَين على احتكار وهم الحقيقة أولاً وعلى إباحة أية جريمة ثانياً وذلك من أجل ترسيخ هذه (الحقيقة) ودحر المختلفين معها حتى وإن ضؤلت درجة الاختلاف.
(داعش) مظهرٌ عارض من مظاهر (الداعشية) التي سبقت التاريخ ورافقته وعاشت في زواياه. و(الداعشية) لا تقترن بأمّة بعينِها أو دين دون سواه أو أية هوية جامعة لبشر متطرفين وأشرار تجمعهم ظروفٌ مناسِبة لظهورهم ولتعبيرهم عن طبيعتهم المتوحشة والإجرامية.
(الداعشية) من الممكن أن تظهر وتنتظم من خلال أرفع الأفكار وأنبلها، كما يمكنها أن تنتظم بموجب أبشع الأفكار وأكثرها انحطاطاً.. الفكر نفسه غير مسؤول عن سوء استخدامه؛ الإنسان هو مَن يذهب بفكرةٍ ما مذهباً حسناً وسليماً، سواء أكانت الفكرة صائبة أو مخطوءة، وهو مَن يذهب بها مذهباً رديئاً متوحشاً وطاغياً ومستبداً.
فالمذهب الحَسَن أو الرديء للأفكار هو في الطريقة التي تقدَّم بها هذه الأفكار للآخرين، وهو في قدرة الأفكار على أن تظلّ مجرد أفكار، والأفكار مجال للنقاش والاختلاف والتفاعل.
الانتقال بالأفكار من حيز التفكير، سواء أكان حسناً أم رديئاً، إلى مجال التطبيق هو سياسة، والسياسة مذاهبها شتى، ومن بينها مذاهب إجرامية سوّدت التاريخ وشوهت الأفكار وأساءت استغلالها.
مجرد الانتقال من الفكرة إلى مجال فرضها وقسر الآخرين على قبولها والخضوع لحقيقتها هو سلوك بشري لا صلة له بالفكر والتفكير قدر ما هو عودة إلى الطبيعة الحيوانية التي ارتقى عليها الإنسان بالعقل، والعقل وحده حديقة الأفكار، وصانع أزهارها وسمومها، وكل ذلك بموجب الكيفيات التي تعمل بها العقول. لا خشية من سموم أفكار العقل طالما بقيت أفكاراً، السموم موجودة في الطبيعة وبعضها يمكن أن يكون مفيداً، وذلك ما تقرره كيفية استخدامها. كيفية استخدام الأفكار للعمل والتطبيق هو سياسة.
(داعش) الراهنة تلمّ نتفاً من التفكير المبثوث في ثنيات العقائد والفقه والفكر الديني، وتعيد إحياءها ليس لمجرد التفكير بها وإنما لإخراجها إلى حيز التطبيق والفرض والقسر، وهذا ما يخُرج (داعش) من مجال تلك الأفكار والعقائد، كأفكار، إلى خانق السياسة بأتعس حالاته، حالات التعسف والجريمة.
و(داعش) ليست ابتكاراً فريداً في مجالها؛ إنها حلقة بين حلقات متقطّعة عبر التاريخ والأديان والفلسفات والقوميات، حلقة سوداء لا تظهر في ظرف تاريخي إلا واقترنت بالدمار والقتل وبتشويه الأفكار والطبيعة الإنسانية معاً.
تاريخ التطور النوعي للإنسان ما هو إلا سعي حثيث للتخلص من هذه الحلقات ولتنظيف الحياة من شرورها.
من المهم القضاء المبرم على (داعش)، كحلقة سوداء حاضرة ومهددة تهديداً مباشراً للحياة والإنسان، لكن الأهم يظل هو السعي للانتهاء من (الداعشية) كخطر ستراتيجي يهدد الكرامة الإنسانية وينتهك حرياتها ويعيث فساداً على
الأرض.