أنْ تكون رحلتك على الطائرة إلى بلد ساحر بجمال طبيعته تزوره للمرة الأولى وتكون برفقة صديق نادر فستكون لكل متاعب وقت الرحلة خفّتها التي تمرّر العناء بيسرٍ لتظل متعتها مستقرةً في البال والوجدان. في ساعة مبكرة من صباح يوم جمعة مررتُ بعريان السيد خلف، حيث نسكن الحيَّ ذاته، لنمضي معاً إلى مطار بغداد باتجاه اسطنبول محطتنا في الطريق إلى زيورخ سويسرا. هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها سويسرا وهي المرة الأولى أيضاً التي تجمعني فيها رفقة السفر بعريان ولنظل أطول فترة معاً حيث قضينا عشرة أيام مشتركة بين زيورخ ولوزان وجنيف.
كنت أحسب أن مزاجينا مختلفان، لكن كان يهمّني التعرف على طبيعة رؤية شاعر شعبي كبير للمكان الآخر. في العادة يستطيع واحد مثلي توقّع ردود أفعال شعراء الفصحى في السفر واكتشافاته، وهي ردود أفعال يكون في الغالب مصدرها ثقافياً أكثر من طبيعته الإنسانية التلقائية، بينما الشاعر الشعبي هو ابن مكانه الأول، قريته ومدينته وبلده، وهو الأشد وضوحاً في الالتصاق والتعبير عن طبيعة هذا المكان بدافع الحس الانساني المباشر الذي يعبُرُ على التأثير الثقافي ويتجاوزه. في ثقافتنا العربية بقي الاختلاط بين المشتغلين بالأدب الشعبي والعاملين بآداب العربية الفصحى اختلاطاً إجتماعيا أكثر من كونه اختلاطاً ثقافيا إبداعياً إلا في حالات نادرة عربياً فيما الأندر بينها هي الحال بين الطرفين في الثقافة العراقية.. إنها ثقافة ظلَّ أدباءُ الفصحى فيها ينظرون بتعالٍ غير مفهوم لأدباء العامية وللأدب المكتوب بها، بينما هؤلاء الأدباء من مستخدمي العامية ينظرون هم أيضاً لأدباء الفصحى بوعي مشوَّه على أنهم كائنات تستحق العطف لغربتها اللغوية والتعبيرية الشعرية ومن ثمّ فشلها في الاندماج بمحيطها الشعبي. كنتُ بموجب هذا وذاك أنتظر الكيفية التي سيكون عليها شاعر شعبي عراقي في محيطٍ من شعرٍ عربي فصيح وآخر من شعر ثقافات أخرى. في سنوات الشباب الأولى كنت اقرأ ما يقع بيدي من شعر عريان، وكذلك قصائد الراحل كاظم اسماعيل الكاطع وآخرين من جيلهما ومن جيلٍ تالٍ لهم، كانت جدية عريان والكاطع وزملائهما في كتابة قصيدة شعبية جديدة تتواصل مع ما انجزه قبلهما مظفر النواب ثم شاكر السماوي وآخرون.
وكانت تجارب هؤلاء تغري بمتابعة نصوصهم التي بدت أقرب إلى شعر الفصحى الحديث إفادةً وتفاعلاً. وكان هذا التجاور مما يشجع على لقاءات شعرية مشتركة لم تحصل ولكن ها هي تحدث وبنتائج طيبة نسبياً إنما في سويسرا. عريان واحد من الشعراء الذين ابتدأوا نجوماً.. ربما كانت قصائد عريان قد سبقته إلى النجومية، فقد عرف الناس قصائد عريان السيد خلف قبل أن يتعرفوا على شاعرها عريان. يومها، في أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات، لم يكن هناك انترنيت ولا طباعة إلكترونية، كانت الاستنساخ بالخط اليدوي وربما اعتماد الكربون في الاستنساخ هما وراء انتشار قصائد الشاعر وتسربها إلى القلوب لتحفظ عن ظهر قلب، وكل ذلك حصل قبل أن تنتشر قصائد عريان وزملاؤه عبر الصحافة. هكذا استقر عريان في قلوب محبيه حيث كانت تنمو نجوميته بما يتوفر عليه من موهبة وبما جُبل عليه من موقف وطني وشعبي لم يتغير. ما لم أقله، وهو ما سأختم به، هو الآتي: في الطريق من البيت إلى المطار للسفر نحو زيورخ كان جواز تسهيل مرور السيارة في رصافة بغداد وكرخها وفي زحمة نقاط التفتيش آنذاك هو عريان. فكان ما أن تبطئ السيارة من سيرها حين نمر بنقطة تفتيش وما أن تقع عيون الجنود والشرطة على عريان حتى نحاط بكرم وسخونة المشاعر الإنسانية التي يكنّها الناس للشاعر. كان من حسن الحظ أننا خرجنا مبكرين إلى المطار لتفادي أي طارئ يحول دون وصولنا، فكان الطارئ فينا، في سيارتنا وبوجود عريان فيها. فقد كان على عريان أن ينزل من السيارة أكثر من مرة للتصوير مع الشبان المحظوظين بكون نوبات حراستهم قد ترافقت مع مرور شاعر نجم بهم.