إنها الطفلة التي عثر عليها جنود عراقيون بين الأنقاض فيما كانوا يطهرون منطقة الشهوان في الموصل. كانت مصابة حيث أخلاها الجنود إلى مركز طبي تتلقى العلاج فيه ولتحظى بعناية افتقدت إليهما. لقد فقدت الطفلة أباها الشيشاني الداعشي بالقصف، فيما فطست أمها الشيشانية بعملية تفجير انتحاري نفذتها ضد قوة من الجيش في الشهوان نفسها. الناجون من تلك القوة التي استهدفتها الانتحارية الشيشانية هم من أنقذوا طفلتها من بين الأنقاض.
بكلمات عربية قليلة تعرفها الطفلة تفاجأ الجنود بأن هذه الطفلة التي بين أيديهم هي ابنة المرأة التي ذهب ضحية إجرامها زملاؤهم قبل قليل، وكان يمكن أن يكونوا هم أو بعضهم في الأقل من بين الضحايا، زملائهم الذين لم تزل في تلك اللحظة دماؤهم ساخنة. لا أضعف ولا أرقّ ولا أكرم من العراقيين أمام امرأة بمثل هذه الظروف العصيبة؛ ظروف حرب وتهديد وقتل ومكائد يمكن أن تفتقر إلى الحد الأدنى من الأخلاق الإنسانية السليمة.. كثير من حوادث وتفجيرات الإرهاب كانت الوسيلة فيها هي استغلال هذه الخصال النبيلة المعروفة في طبائع العراقيين. ومع هذا لم تتعطل هذه الخصال فينا؛ لا ينبغي لطبائع الأشرار أن تعطل طبائع الخير والمحبة.
واحد من دوافع المجرمين مشعلي الحروب هو السعي من أجل تشويه الحياة الإنسانية وقيمها الكريمة.
مشعلو الحروب يريدون عالما شبيها بهم، عالما من الكراهية والأحقاد والضغائن. لا ينبغي لقيم الخير أن تندحر وتستسلم لمشيئة إرادة الشر. هكذا انتصرت قيم الخير وحضرت بأبهى ما تكون عليه أمام مشهد طفلة هي كل ما تبقى من أب مجرم وأم قاتلة.
سيبدو مثل هذا الكلام مبالغاً في تصوير إنسانية التصرف مع طفلة، أنها طفلة بريئة، وهي هكذا فعلاً، لكن ماذا عن منطق الحرب؟.
التفكير بظروف الحرب وانفعالات الخارجين توّاً من تفجير انتحاري هو غير الكلام البارد حينما يطلق بعيداً عن سخونة لحظة اصطدامٍ بطفلة شيشانية تركها مجرمان شيشانيان حيث قضيا وفي عنقيهما دماء عراقيين أشراف وخراب بيوت عراقية طاهرة. أفعال الشر متروكة لمن هم أهلٌ لها من قتلة مأجورين وأراذل. إنها أفعال انتهكوا بها كل مقدس وتورطوا معها بأتعس الجرائم التي يعفّ عنها حتى أحطّ الحيوانات سلوكاً وغريزةً. لقد كان الجنود العراقيون لحظتها يؤدون مهمة تطهير وتنظيف المكان من المجرمين وتأمين إنقاذ الأبرياء العراقيين، إنهم منقذون. لم يستسلم المنقذون العراقيون للانفعال. المنقذ، وهو يؤدي رسالة الإنقاذ، لا يميز بين أطفال عدو وأطفال صديق.
فما الذي تتوقعه من منقذ منتصر؟ الحروب مهما كانت دوافعها تظل وسخة. لكن النظيف من قصص الحرب هي ما تعيدنا إلى صفاء الطبيعة الإنسانية ورُقيّ خصالها. (يستفيد المقال من خبر أورده الصديق الصحفي الشجاع حيدر مجيد المرافق لقواتنا طيلة ايام التحرير).