حين يكون تفاهم المثقفين مع بعضهم صعبا، وحتى مستحيلاً، إذا ما انطلقوا فيه من قاعدة الاختلاف السياسي والفكري فإن مجالات أخرى كثيرة ممكنة، ويمكن معها خلق بيئة طبيعية للتفاهم والانسجام، وهذه بعض متطلبات النهوض بحياة ثقافية يمكن معها العيش المشترك والشعور بمسؤولية إزاء تلك الحياة الثقافية الوطنية.
الانسجام هنا لا يعني في أي حال الاتفاق والالتقاء عند موقف واحد أو تفكير واحد.
في الثقافة، وفي الآداب والفنون بشكل أخص، يكون الاختلاف هو الجوهري الأساس بينما الاتفاق هو العرضي الذي تمكن مصادفته هنا وهناك والخروج عليه بعد حين.
لكن لا الاختلاف يفرض الانقطاع ولا الاتفاق يدعو بالضرورة إلى انعزال المتفقين بكانتونات تنأى بهم عن سواهم المختلفين معهم.
الاختلاف والاتفاق مجالهما نصوص الثقافة وإنتاجها فيما التفاهم والانقطاع هما من صيغ السلوك والحياة الإنسانية في الصلة ما بين الأفراد وما بين المجاميع. يمكن، بل ينبغي، أن ننمي أشكال وصيغ وطبائع الاختلاف والتنوع الثقافي، ويحصل هذا في المنتجات الثقافية، نصوصاً ومواقف ورؤى، غير أن هذه التنمية لا تتحقق بتقطيع أوصال الجسد الثقافي وتمزيق الحياة الثقافية وتفكيكها.
الحياة الثقافية العراقية أكثر من ممزقة وأشد تفككاً.
تبدو الثقافة العراقية اليوم مفككة أكثر مما كانت عليه في أية فترة سابقة.
وهذا التفكك غالباً ما يستطيع أن يجد أو يختلق دواعي التمزق وتقطيع فرص الحياة المشتركة، والحياة المشتركة، كطبيعة وأهداف، هي مسوؤليات ثقافية ووطنية لم يجرِ النظر إليها بما تستحقه وما تتطلبه.
الإشارة الأخيرة هنا إلى الصفة الوطنية قد تحيلنا إلى قاموس التعبير السياسي.. لكن الوطنية أسبق من السياسة وهي أكبر من أن يجري تحديدها وتقييدها بالتوصيف السياسي، كتوصيف وحيد، الجانب الأول في الوطنية هو المشاعر إزاء المكان/الوطن والآخرين من شركائنا في الوطن.
اليوم في العراق ليس من عاملٍ فاعل من أجل التمزيق والانقطاع وحتى التناحر أكثر من فاعلية العامل السياسي.
السياسة هي ما أودت بنا جميعاً وبالبلد إلى مثل هذا الحال؛ وتشترك بهذه المسؤولية المخزية سياسات الموالاة والمعارضة على حد سواء.
السياسة تستطيع أن تفتح الآفاق كما تستطيع إغلاقها، وواقعاً كانت السياسة في معظم نتائجها خلال السنوات الأخيرة مولّدة للانسداد والانغلاق.
مظاهر هذا الانسداد تعبِّر عن نفسها بوضوح في النسيج الاتجماعي كلما كانت عناصر هذا النسيج بتماس وتحت تأثير معطيات السياسة، لكن هذه العناصر نفسها، عناصر النسيج الاجتماعي، تبدو أكثر أريحيةً وتعبيراً عن التفاهم واستحضار المشتركات في ما بينها وذلك كلما كانت في لحظة أو مكان مسترخٍ نوعاً ما من تعبيرات السياسة وملفوظاتها.
في مثل هذه اللحظة وهذا المكان المسترخي يحضر قاموس آخر للتفاهم بين المواطنين، إنه قاموسٌ تحتفظ به المِهن، مثلاً، وتحتفظ به التقاليد والمناسبات الاجتماعية واللقاءات، بالمصادفة، في أماكن عامة، وهو بهذا قاموس تصونه وتستحضره حاجة البشر إلى العيش المشترك والحياة الاجتماعية، وكلما حضرت هذه الحاجة تحضر معها التعابير الإنسانية عن المسؤولية الوطنية وعن ضرورات الوحدة والنأي عن التمزق. الوطنية يُضْعفها التعبيرُ السياسي، وهذا خلاف المتوقع، وتصونها الطبيعة الإنسانية.
دائماً يساق هذا التعبير التالي ويراد به السخرية من الحياة السياسية ولكنه واقعاً ينطوي مثال مفيد للتعبير عن المفارقة التي جئنا إليها قبل قليل والتي تحمّل السياسة مسؤوليات إضعاف الشعور بالوطنية المشتركة. يقول التعبير المتداول:
(إن البرلمانيين العراقيين يكونون بمنتهى الانسجام والتوادد حينما يكونون في كافتريا البرلمان بخلاف ما هم عليه من تناحر وزعيق تحت قبة برلمانهم وكلما كانوا تحت أضواء كاميرات التعبير السياسي).
دواعي تمزق البرلمانيين، وعموم المشتغلين في حقول السياسة، يجب أن تكون غير دواعي المثقفين.
أساساً لا مبرر ولا مسوّغ للتمزق الثقافي.
في الثقافة من الممكن وضع الحدود والفواصل الفارقة في المواقف والتفكير، لكنها حدود لا ينبغي معها أن تتقطع أوصال الحياة بين البشر وحتى بين المختلف من أفكارهم وتوجهاتهم وطرائق تفكيرهم.
هذا التقطّع هو تعبيرٌ صريح، مباشر حيناً وغير مباشر أحياناً كثيرة، عن فشل الثقافة في دورها الصياني؛ صيانة نفسها وعناصرها المنتجة لها من ضغوطات السياسة، وبالتأكيد لا تنفي هذه النتيجةُ الصلةَ بين الثقافة والسياسة؛ لا ثقافة بلا سياسة ولا سياسة بلا ثقافة.
عملياً تواجه الثقافة والمثقفون العراقيون تحديات سنوات وعقود من سوء التفاهم في ما بينهم؛ في الغالب يتكاثر سوء التفاهم ويتفاقم مع تقطيع الصلات، ومن المؤسف أن تغيرات الحياة السياسية بعد 2003 لم تهيئ الظروف الممكنة والمحفزة لعودة عشرات من مثقفينا ممن اغتربوا لعقود، وكان هذا من دواعي تفاقم مشكلات تفكك الحياة الثقافية الوطنية.
اليوم تستطيع الجهات الثقافية الرصينة والمتعالية على الاستخدام السياسي أن تعمل شيئاً من أجل خلق مناخ للقاء والتفاهم وحتى للعمل المشترك.
الاختلاف بالسياسة وحتى بتوجهات الثقافة شأن طبيعي لكن الشعور بالمسؤولية إزاء الثقافة الوطنية والحياة الثقافية لا يحتمل الكثير من التمزق وضياع الوقت وهدر الفرص اللازمة لعمل شيء.
تتدهور السياسة وقد تتدهور معها الحياة العامة بمختلف مستوياتها، وحينها ينبغي التفكير بالنخب الثقافية وبالثقافة كوسيلة يجب أن تكون أكيدة من أجل عمل شيء.