جانب كبير من تاريخ الأدب العربي، وربما في آداب أخرى أيضاً، تشغله معارك الأدب والأدباء. إنها سير ووقائع وحكايات تنتهي المعارك ويذهب المتعاركون وتظل هي المتداولة لطرافة بعض ما فيها في أغلب الأحيان ولبعضٍ من العبرة التي تنطوي عليها تلك الحكايا أو التي تُستَشف منها في أحيان نادرة. لكن معارك الأدب والأدباء تظل في معظمها ليست أدبية. إن شيئاً من التأمل في تلك الوقائع والحكايا يمكن معه بلوغ هذه النتيجة التي تؤكد لا أدبية تلك المعارك. تعبير (معارك) ذاته يحيل إلى طبيعة وحشية غالباً ما ينفر الأدب عنها ويسعى الأدباء إلى التحرر منها. لكن الأدباء يظلون بشراً، ويظل جزءٌ من الطبيعة الوحشية ماثلاً في السلوك البشري، لذلك تحصل معارك الأدب والأدباء إنما في شؤون أخرى غير شؤون الأدب. حياة البشرية كانت سعياً دائماً، حثيثاً حيناً ومتلكئاً أحياناً أخرى، من أجل التخلص من أسْر التربية الوحشية التي تعيد الإنسان إلى تيهه الأول في الطبيعة، ما بين كائناتها. الطبيعة الإنسانية هي ما تسعف البشر ليتخلص من آثار الطبيعة فيه؛ من الجانب الوحشي من تلك الآثار. كلما انتكست الطبيعة الإنسانية في الإنسان عادت لتستفحل في أعماقة النزعة الوحشية؛ نزعة التعارك والتدمير ومحو الآخر القرين الإنساني. الحروب هي المظهر الأكبر لهذا الانتكاس البشري المدمّر، فيما المعارك؛ معارك الناس في ما بينهم، هي تجليات لارتداد المتعاركين عن طبيعتهم الإنسانية.
الأدباء في حيواتِهم العامة والخاصة هم أيضاً، كما سواهم من البشر، يعانون لحظات ارتداد عما يهذّبهم به الأدب وعما ترصنهم به الثقافة من طبيعة إنسانية، ولن يكون غريباً أن تظهر في حيواتهم إشارات هذا الارتداد، وهي إشارات تعبر عن نفسها بالمعارك التي تنشب بين أدباء أو بين أدباء وآخرين من البشر من غير الأدباء.
يعمل الأدب، بشكل خاص، والثقافة، بشكل عام، على تعزيز وصيانة الجانب الإنساني في تمرده على الحياة الوحشية، ويبدأ هذا بالأديب نفسه قبل أن يبلغ تأثيره في القراء والجمهور.
يمكن باللغة العربية ملاحظة أن الكلمتين: أدب، وثقافة محمّلتان بدلالة أخلاقية (الأدب) وأخرى صيانية (الثقافة)؛ أَدُبَ المرءُ: حسنت أخلاقُه، و (أدّبني ربي فأحسن تأديبي)، بينما تعاد كلمة (ثقافة) بقواميس العربية إلى تشذيب (الرمح) وتخليصه من الزوائد (ثِقافُ الرمح تسويته)، وهي مهمة صيانية تنتقل من محمول دلالي معين إلى محاميل مجازية أوسع. لكن المجاز نفسه ينحرف أحياناً عن الدلالة الإيجابية؛ الأخلاقية والصيانية، ليجري استخدامه بدلالات أخرى، فكلمة (أدب) يمكن استخدامها بمعنى الزجر والردع: (أدّب المعلمُ تلميذَه)، أي وبّخه وزجره ونهاه، وكلمة (ثقافة) يمكن حصرها بدلالتها الصناعية في الرمح لتستحيل (الثقافة)، كمعرفة وسلوك، إلى ترامح، رمي بالرماح. لا يشترط بهذا الترامح حصول الفعل القتالي المباشر؛ لنستعد هنا ذكرى أحد كبار أدباء العربية وأشدهم ضحية للتعارك، إنه المتنبي الذي لا أخال شاعراً ناله من الطعن ما كان قد نال منه،. في واحدة من قصائده يشير المتنبي بشكل مباشر لتلك المعارك الأدبية التعسة فيذكر (النصال):
فَصِرْتُ إذا أصابتْني سهامٌ
تكسّرتِ النّصالُ على النّصالِ.
لم يخض أبو الطيب حرباً، لكنه معاركه من خصومه وحساده كانت أشرس، وإلا كيف نفسر معركة أدبية يجري فيها استخدام الكلام بما يمكن أن يؤدي إلى مقتل الشاعر وهدر دمه؛ (وماذا أبقيتَ للأميرِ بعد وصفك لنفسك بكل هذا؟) يسأل شاعرٌ مثل أبي فراس شاعراً هو المتنبي في حضرة الأمير سيف الدولة.
الكلمة في هذه المعركة الأدبية استحالت نصلا أو رمحاً، كان الأمير أخف دمويةً من الشاعر الحمداني فاكتفى برمي الشاعر المتنبي بدواةٍ (محبرة) كانت أمامه فشجّ بها رأسه وأسال دمه، والحكاية معروفة كواحدة من أشهر حكايات المعارك الأدبية في تاريخنا الثقافي العتيد.
يجب القول هنا إن التاريخ لم يحفظ لنا شيئاً جديراً بالاعتبار عن معركة، بمثل هذه الوحشية، بين شاعرين متكافئين قدراً وقيمةً وإبداعاً.
ما قيمة أبي فراس بمواجهة أبي الطيب؟ المعارك تحصل بين شاعرين متباينين في القيمة (وفي العادة هي معركة من طرف واحد إذ يبدأها صغير يريد التعملق بها) أو ممكن أن تحصل بين شاعرين متماثلين في تواضعها، وبمثل هذه المعارك يجري ردمُ فراغ كان قد عجز الإنجاز الأدبي عن ملئه.
يعصم الأدبُ والثقافة الأديبَ من مغبة (المعارك)؛ الأدب والثقافة مجالهما (الاختلاف)، وإذا قبلنا الاختلاف نكون قد قبلنا بنتائجه، وأبرز نتائج الاختلاف هو التنوع في الرؤى والتصورات والمواقف.
هذه طبيعة إنسانية متمنعة على الصورة الوحشية التي تضع (المعركة) بمختلف أنواع أسلحتها وسيلةً وحيدة لحسم الخلاف والاختلاف.
الأدب من الرفعة بحيث ينمّي حسّا إنسانياً يكون ضمير الإنسان بموجبه مسؤولاً عن حفظ وصون حرية قرينه المختلف.
هذا قيم لا تمر ببال أيِّ مأزوم يضع يده على قبضة مسدسه كلما سمع كلمة ثقافة.
ثمة مسدسات تقتل برصاصٍ وثمة بينها ما يقتل بكلمات.
الأدب براءٌ من القتل والقتلة.