قبل أن تجمعنا المدرسة الثانوية عام 1973 كانت مكتبة عامة قد جمعتنا فتوطدت ما بيننا، في قاعتها وفي الخارج منها، صداقة امتدت لأربعين عاماً حتى ختمها الموت، موت الصديق سيف الدين كاطع.
لا أعرف لماذا كان الموت هذه المرة دافعاً للتفكير فقط بمعنى الصداقة.
هذه ليست كلمة رثاء، الموت هذه المرة مناسبة للاحتفاء بالصداقة العميقة التي تنأى بنفسها وبالأصدقاء عن مباذل ما هو زائف من صداقات وأصدقاء.
استيقظت على نبأ وفاة سيف، ومنذ الصباح حتى انتصاف الليل، حيث كتبت هذه الكلمات، لم يشغلني سوى التفكير بالصداقة، معنىً وحياةً وسلوكاً وثقافةً.
لا فضل للموت في هذا (وهل للموت أفضال؟)، الفضل كل الفضل هو للصداقة التي تتسامى على الموت وفجائعه حينما تحضر هي كقوة وطاقة أكبر من الموت وأشد بأساً من فجيعته.
في مجلس عزائه كانت الصداقة هي الأشد حضوراً في التفكير والمشاعر.
كانت أكثرية الحضور من المعزّين والمواسين في المجلس هم أصدقاء مشتركون من سنوات الصبا وبواكير الشباب حيث العمل الطلابي والشبابي، ومن سنوات الأدب والشعر وصداقاتها، وبهذا كان مجلس العزاء مناسبة لمصادفة أصدقاء قدامى لم ألتقِ مع بعضهم منذ عقود، الملامح تغيرت والسنوات التي تقدمت تركت آثارَها في كل شيء، غير أن قيمة واحدة ظلت ثابتة بحيويتها ورسوخها هي قيمة الصداقات الحقة، وسيف الدين كاطع هو مؤسس دائماً لمثل هذه الصداقات النادرة.
الموت وحده الذي أوقف صداقتي وصداقة كثيرين مع سيف الدين، الصداقة حياة لا تنقطع حتى وإن تباينت الظروف وتقطّعت أسباب اللقاء، الصداقة التي لا يوقفها سوى الموت هي النمط النادر من الصداقات.
سيف صديق أحتفظ له في أعماقي بامتنان خاص لما ظلّ يبديه دائماً من طاقة على الأمل؛ الأمل في قيمة المثابرة في الحياة والشعر والثقافة، وفي ترسيخ ثقة الصديق بقدراته ومؤهلاته حتى حينما يكون هذا الصديق في أتعس حالات انكساره وإحباطه وتمزقه.
لا أدري من أين يستمد سيف، وهو محاور ماهر في الاقناع، هذه القدرة على استنهاض الأمل والثقة وتنميتهما لدى الصديق.
إنه رجل ظل يحافظ على خفة الروح ومرحها ومسراتها ويديم حيوية الشباب فيها، ويعزز تطلعها الثقافي في الجمال كما يُعبَّر عنه في الشعر والآداب والفنون.
لا مصلحة لسيف في هذا؛ المصلحة الأشد وضوحاً في سلوك سيف الدين كاطع هي زيادة مساحة الجمال والحب والخلق والإبداع في عالم يبدو أنه زهد بكل هذا.
إنه صديق معظم الشعراء والكتاب والفنانين. لم يفكر أن يكون في أيٍّ من هذه المجالات، سعادته ظلت تضارع سعادات أصدقائه بما ينجزون، وبهذا كان يسبغ من فيض روحه شيئا ما يديم حيوية الأصدقاء على الخلق والإبداع. لم يكترث لمغريات الكتابة الأدبية، لكنه احتفظ لنفسه منها بأناقة الروح الكريمة، وبما يتجلى من هذه الأناقة الأهم من أناقات في الحديث والسلوك والملبس والعاطفة، هذه الأناقات هي أعراضٌ ظاهرة لتلك الأناقة الروحية الطافحة على محيا وملامح سيف الدين كاطع حتى حين يكون في أشد حالات قسوته مع الآخرين.
صراحته مظهرٌ مهم من مظاهر أناقة روحه؛ لا تتردد صداقة سيف الدين في أن تكون قاسية في نقدها وبارعة في تعبيرها وذلك كلما كانت الصداقة أمام مسؤولية الوضوح في الموقف والنقد والتقويم عند خطأ لصديق، وما أكثر أخطاء اصدقائه ما داموا شعراءً وكتّاباً وفنانين.
في صداقة رجل مثل سيف لا يتوقع المرء أن يتفاجأ بما لم يعرفه ولم يتوقع عليه الصديق، سيف الدين واضح في كل شيء، إنسان مباشر وهو لا يتردد في أن يمرّر أعقد الأشياء وأكثرها إثارة بالتلقائية ذاتها والابتسامة المباشرة المعروفة عنه، وليس أمامك سوى أن تقبله أو ترفضه بما هو عليه. لا تحتمل الصداقة لفّاً ودوراناً وتصنّعاَ سيهتز وسيتكسر وتتكسر معه الصداقة عند أول صدمة.
ما لم نطمئن بصداقاتنا فأين ترانا نطمئن؟
الصداقات الحقة هي ما تساعدنا وتعمل على أن تستعيدنا من أخطائنا؛ ذلك ما تصنعه المحبة والثقة المتبادلة التي تفرض تقاليد الحياة بلا أقنعة، في الصداقة ينبغي للحياة والمشاعر والمواقف أن تكون سافرة بلا حجب، كل ما يتوارى وراء حجاب يظل مدعاة للشك ولسوء الظن والتحسّب دائماً، ولا صداقة بلا اطمئنان.
الصداقة التي تضيء الأمل بمحبتها وكرمها هي ذاتها التي تشتد وتغضب وتقسو حين تكون القسوة ضرورة.
المحبة الدافعة للخلق والقسوة الواقية من الخطأ يتكافآن بالقيمة في هكذا صداقات.
تبدو الحياة بالقرب من سيف مترعة بالأمل والتغيير والتجدد؛
الشعراء أحوج ما يكونون لمثل هكذا حياة وهكذا صداقات.
غادرَنا سيف الدين، وكانت روحه هي الحاضرُ في عزائه ما بيننا، نحن أصدقاءه من شعراء وكتّاب وفنانين وسياسيين قدامى وصحفيين وأكاديميين وذوي مهن وحرف مختلفة، إنها روحه الطافحة بالأمل والسخرية حتى من الموت نفسه.
قبل موته بحينٍ كانت غرفته في المستشفى تكاد ترتج بضحكات الأصدقاء المحيطين به وهم يصغون لسخرية سيف المريض الذي أيقظته الصداقة من رقدة مرضه، ففاجأ الجميع بعينين كابرتا المرض بمرحهما، وبشفتين مبتسمتين بأمهر ما تكون عليه تعابير سيف الدين الساخرة والمداعبة وبما جُبلت عليه من محبة ومسرة.
ارتفعت وتيرة السعادة في الغرفة وأشتد بها الضحك حتى أشتكى مرافقو المرضى في الغرف المجاورة مما يحصل في هذه الغرفة الغريبة على طبائع المستشفيات.
ماكان لأحد أن يعرف أن سيف بهذا كان يريد أن يوهم أصدقاءه أنه على وشك التعافى من مرضه، لا يحضر سيف إلا وقد حضرت المسرة، لم يرد سيف للحزن أن ينتصر عليه وهو في آخر لحظاته، كان يضحك ويملأ المكان بضحكات الآخرين من أصدقائه، فيما كان الموت وحده صامتاً وحزيناً وهو يستبد بالجسد النحيل، لقد ترك سيف الدين الموت يؤدي مهمته بكل هدوء واطمئنان.
حتى إذا أزفت الساعةُ كانت غرفة سيف الدين موحشةً، فقد أطبق مريضها عينيه على صور الحاضرين من أسرته ومن أصدقاء حاضرين وغير حاضرين، وكان عليه أن يغادرهم هو ويمضي مع هذا الصديق الجديد، مع الموت، إنه آخر الأصدقاء في الرحلة الأطول.
لقد كان سيف الدين كاطع رفيقاً بأصدقائه، فترفق به أيها الموت.
إنه صديقنا بين يديك.