بعض الكتب المهداة تكون استثنائية وبهذا تستحق الوقوف عندها وإشراك الآخرين بمتعة هذا الوقوف. الكتب الحقّة هي كلها مهمة وجديرة بالاعتبار، لكن الاستثاني في حال أي كتاب هو في قدرته على أن يملأ نقصاً ما في المعرفة؛ وما أعظم النقصان، بل ما أكبر ما يتسع النقص كلما حاولت ردمه. وواحد من هذه الكتب الاستثنائية هو ما أهداني إياه الصديق علي وجيه بعد عودته من معرض الكتاب في الإمارات العربية؛ إنه كتاب (خزانة الشعر السنسكريتي)، ودائماً علي جزيل بكرمه في مثل هذه المناسبات. هذا الكتاب الذي ترجمه إلى العربية عبدالوهاب أبو زيد والصادر عن منشورات (كلمة) في الإمارات لا يحمل اسم مؤلف على غلافه، لكن تصديرا مقتضباً تقدم الكتاب ووضعه مدير عام مجلس الهند للعلاقات الثقافية بالانابة السيد م ك لوكيتش يوضح أن نصوص الكتاب جمعها سفير هندي سابق هو السيد هاكسار، وهو مترجم معروف، كما يقول التصدير، من اللغة السنسكريتية إلى الإنكليزية.
قد لا يحتاج مثل هذا الكتاب إلى اسم مؤلف؛ إنه كتاب شعراء قدامى ولا فضل للجامع المعاصر فيها إلا بجمع نصوصه من ترجمات مختلفة من السنسكريتية إلى الإنكليزية، فالكتاب انتولوجيا واسعة لهذا الشعر السنسكريتي الذي هو بعضٌ من ثقافة مهمة من ثقافات الشرق حيث ما عاد مفارقةً أن نتعرف على كثير من هذه الثقافات الشرقية عبر الوسيط الغربي (ومن الواضح أن الكتاب مترجم عن الإنكليزية)، فهكذا قبل هذا الكتاب الأخير كنا قد تعرفنا على كنوز قديمة وحديثة من آداب وثقافات اليابان والصين والهند وحتى إيران من خلال ما كان ينقل إلى لغتنا من اللغات الغربية وبالأخص الإنكليزية الممر الحيوي نحو قراء العالم المعاصر الذين تفاجأوا بشعراء ومؤلفين مثل عمر الخيام وجلال الدين الرومي وطاغور ومحمد إقبال وسواهم إضافة إلى أشعار أخرين شرقيين قدامى ومعاصرين، من بينها أساطير وملاحم وروايات وحتى نصوص الهايكو.. هؤلاء منتجو أدب كبار تعرفنا، نحن قراء العربية المجاورين لتلك الثقافات، على الكثير من نصوصهم وعوالمهم من خلال جهود الغربيين.
المشكلة في (تقطّع) صلتنا المباشرة مع اللغة السنسكريتية هي مشكلة مضاعفة مقارنةً مع اللغات الشرقية الأخرى، فهي لغة قديمة واختارت أن تكون لغة معابد وكتب مقدسة وسيكون، وبهذا، من الصعب الإلمام بها حتى بالنسبة لمواطني بلدها الهند.
الغربيون هم مَن بادروا بترجمة الشعر السنسكريتي وجوانب ثقافية أخرى عن هذه اللغة. لكن الهنود هم أيضاً كانت لهم مبادراتهم في تعريف العالم بكنوز تراثهم. المقدمة التي جاءت في هذا الكتاب تضمنت معلومات تاريخية عن جهود مثقفين هنود منذ قرنين في إطار الترجمة عن اللغة التي تقارن باللاتيتنية القديمة من حيث مآلها واستخدامها المعاصرين. وهذا بخلاف ضعف الاهتمام العربي بنقل التراث إلى لغات العالم الحية، بل يمكن القول إن جهود المستشرقين المحققين كانت هي المبادرة في تقديم كنوزنا التراثية حتى إلينا. تذكرت هذه المقارنة بين حال التراث السنسكريتي، واهتمام جهد مؤسسي وشخصي به، وحال التراث الثقافي العربي حينما استغرقت بقراءة هذا السِفر الممتع (خزانة الشعر السنسكريتي).. لقد ساعدت في تكريس هذه المقارنة الملاحظات التي جاءت بمقدمة الكتاب والتي اشارت إلى محنة هذا الشعر القديم مع الترجمة إلى اللغات الأخرى وخسرانه لكثير من امتيازاته كلما كان خاضعاً إلى ترجمة تتقيد بنقل الأفكار والتعبيرات وتتساهل في الفحوى الفنية للشعر. أعتقد أن شعرنا القديم يعاني هو الآخر من هذه المشكلة التي تفرضها مسوؤلية المترجم الغربي أثناء الترجمة عما يمكن تسميته بـ (أمانة الترجمة)، خصوصاً أن معظم المستشرقين الذين عنوا بترجمة شعرنا كانوا أكاديميين، وكان دافعهم البحثي والعلمي أكبر من الدافع الأدبي. يحتاج تراثنا الشعري إلى صيغ وأساليب أكثر حرية وجرأة لمساعدته ليكون قريباً من اهتمام القارئ الأجنبي. مقدمة كتاب الخزانة الذي ضم الكثير مما جرت ترجمته من شعر سنسكريتي إلى الإنكليزية، سواء على أيدي غربيين أو هنود، تنحاز إلى أهمية عناية الترجمة بالطبيعة الأدبية للنصوص. ويركن مجلس الهند للعلاقات الثقافية في اختياره النصوص التي تضمنها الكتاب إلى المعيار الأدبي، لا العلمي، للترجمة. لا تتردد المقدمة في القول بأهمية مراعاة حاجة القارئ لأن يقرأ الترجمة، وهذا ما يسوغ التدخلات الأدبية، حسب المقدمة، التي تساعد النص القديم ليكون قريبا من طبيعة ومزاج قراءتنا المعاصرة من دون إخلال بطبيعته التاريخية وبصيغها التعبيرية والفنية.
هذه مشكلة تفرضها طبيعة النصوص نفسها، حيث لم تكتب هذه النصوص بمعظمها كشعر مجرد وخالص وإنما هي بعض من سياق كتابي تضمنته كتب ومؤلفات سنسكريتية كثيرة من بينها كتب مقدسة.
هكذا تأتي غالبية النصوص الشعرية في (خزانة الشعر السنسكريتي) وكما لو أنها فعلاً نصوصا شعرية مكتفية بذاتها وليست مستلة من سياق كتابي آخر غير شعري، إنها نصوص مفعمة بطاقة التعبير الشعري الشرقي الغني دائما بالطاقات الروحية، التأملية منها والحياتية اليومية.
الشعر في هذا الكتاب ينشغل بالتعبير الديني حيناً وبالوجداني المهتم بحياة الإنسان وتفاصيلها العاطفية أحياناً كثيرة. وبهذا فهو لا ينأى كثيراً عن نصوص الشعر الأخرى الراسخة في مختلف الثقافات الشرقية. فثمة في الكتاب ما يحيل إلى صيغ التعبير السائدة في (الكتاب المقدس)، بعهديه القديم والجديد، وثمة فيه أيضاً ما يذكِّر بالنصوص الشعرية والإسطورية الرافدينية، وليس واضحاً ما إذا كانت هذه التقاربات من نتاج المؤلفين الأصليين أو هي مما أسبغت به على النصوص السنسكريتية الترجماتُ الأدبية، سواء الترجمة الأولى من تلك اللغة القديمة إلى الإنكليزية أو هذه الترجمة العربية التي بين أيدينا وهي عن الإنكليزية. وكل هذا لا يثلم شيئاً من القيمة الأدبية والثقافية للكتاب الذي قدمته منشورات كلمة بطباعة فاخرة وبإخراج فني متميز.
الترجمة العربية الرصينة التي قدمها عبدالوهاب أبو زيد أضافت إلى لغتنا نصوصاً شعرية غنية بطاقتها التعبيرية وبمحمولاتها التي تؤكد أننا أمام نصوص كلاسيكية جاءتنا من ثقافة كبيرة، وهي نصوص لافتة وجديرة بالاهتمام.