جدوى التوقف توقفت خلال الأسابيع الأخيرة عن الكتابة وفي مجالاتي الأخرى للكتابة، وكان هذا بفعل أكثر من سبب، من بينها عارض صحي ترافق مع ظروف عمل عائلي كانت تتطلب جهداً ووقتاً.
التوقف عن الكتابة ترافق مع توقفات أخرى عن العمل الوظيفي وعن التواصل في ميديا التواصل ومتابعة التلفزيون المنقطع أساساً عنه منذ سنوات تقريباً، وكذلك عن الأخبار وتوتراتها.
لم تكن القراءة هي الأخرى بالبعيدة عن مثل هذه التوقفات. لقد اعتدت على أن لا أقرأ إلا في ظروف مناسبة تماماً للقراءة كفعل يضارع فعل الكتابة ويتطلب الظروف ذاتها اللازمة لها. ظروف الأزمات غير منتجة بالنسبة لي سواء على صعيد الكتابة أو القراءة.
اعتدت على أن أكون قارئاً انتقائياً؛ لا أختار من الكتب إلا ما يمتعني، ويتم فائدة لي في مجالات محددة تعنيني وتعني عملي في الكتابة، وبهذا يتحدد مدى قراءاتي، لست طموحاً في توسعة أفق هذا المدى.
هدر الوقت بقراءة غير منتجة هو شكل آخر لهدره بكتابة سيئة. فالقراءة بفعل كونها عملاً موازياً للإبداع تتحرى الندرة في الكتب، كثير من الكتب لا أتم قراءتها، والأكثر منها هي الكتب التي ينفرني منها ترويجُ مَن لا أثق بنظرهم إلى الكتاب. الكتاب النادر والاستثنائي، في إمتاعه وتلبيته حاجاتي، وحده ما أتم قراءته وقد أعيدها وأطيل المكوث معه.
ولعل ما هو مهم من وجهة نظري واستثنائي بالنسبة لي قد لا يكون كذلك بالنسبة لك، أو لآخرين سوانا. هذه بعض طبائع الإبداع؛ نادر، وليس بالضرورة مقنعاً للجميع. أكتب الآن هذا المقال في مكتبي بالمنزل حيث مكتبتي. كثير من الكتب التي فيها يجب أن تغادر مكانها. الكتاب مثل المرء يجب أن يكون في المكان المناسب. والمكان المناسب للكتاب هو ما يشكّل فيه حاجة بالنسبة لمالكه، والحاجة إلى الكتاب هي في تفعيل مقروئيته. لذلك يجب تحرير الكتب التي لم تعد لنا حاجة إليها. شيء مفزع فعلاً أن تكون أمامي كتب كثيرة، إنها مثل بشر كثيرين محيطين بي صامتين وينتظر كل منهم دوره في حوار معي.
الكتاب المكتمل حياة كاملة نابضة بكل شيء، لا ينبغي لكاتب وشاعر، ولأي مثقف، الحجْرُ على هذه الحياة النابضة والقبض عليها بداعي نزعة التملك.. ينبغي تحرير الكتب التي لم تعد بنا حاجة إليها سوى حاجة الامتلاك. فترة التوقف هي مناسبة لمثل هذه الانتباهات؛ الكف عما هو زائد وفائض في حياتنا، والتخلص من نزعة التملك الآسرة للأشياء.
آمل أن يساعدني بعض الأصدقاء الأكاديميين في نقل أكثر من خمس مئة كتاب (هي المقررة حتى الآن) فقد تكون فيها فائدة لمكتبات الكليات والجامعات والطلبة الدارسين فيها، كثير منها مهم في مجاله، إنما ليس لي ولمحدودية اهتماماتي.. بينما آمل أن أساعد نفسي بمواصلة التخلص من أسر عادات أخرى كمتابعة الأخبار وشؤون السياسة وتقلباتها.
ليس هناك ما هو أهم وأجدى من أن يكون المرء مع نفسه متخففاً من أثقال وأعباء تطيح بفرصنا للنهوض ومواصلة السير بما تبقى لنا من خطوات.
سجن
للشمسِ روحُها..
ضوؤها الحرُّ،
يدُها وهي تترفق
حانيةً ورحيمةً
إذ تمرّ على جسد الطبيعة.
لكنّ شجيرةً وحيدةً في سندانتها،
حزينةً،
تتوسّلُ كفّاً من الضوء صغيرةً
لن تنبسطَ على وريقاتِها
وهي تشحب
وتذوي
في هذا الركنِ المعتمِ في قبو.
الزائر الأول
بعد الانتقال مؤخراً إلى بيت جديد كان الزائر الأول فيه للعائلة وللبيت هو حمامةٌ.
إنها حمامة بيضاء صغيرة ظهرت فجأة في البيت.
ففي رواقِ مشروع حديقةٍ صغيرة توسطت البيت وما زالت بعد جرداء بلا حياة، تسوّرها جدران عالية ومساحات زجاجية لنوافذ كبيرة لغرف مطلّة عليها، تفاجأتُ بوجود حمامة بيضاء صغيرة تتنقل باطمئنان على بلاط الرواق المحيط بالحديقة التي ما زالت مشروعاً. طيلة عمري لا أذكر أن بيتاً من البيوت الكثيرة التي تنقلت بينها كان يحتوي على قفص. ليس في اهتمامات أيٍّ من العائلة تربية الطيور، برغم هذا تساءلت ما إذا كان أحدٌ قد جاء بالطائر، ولما تأكدت من تفاجؤ الجميع معي بوجود هذه الحمامة نظرت إلى السماء التي تطل على الحديقة الافتراضية من بين أعلى الجدران الأربعة المحيطة بها، إنها النافذة الوحيدة التي جاءت بالحمامة حيث هي أمامي على بلاط الرواق مطمئنة غير عابئة بأطفال العائلة وكبارها وهم يحيطون بها ويحدقون فيها بسعادةٍ واستغراب.
نحن في بيئة لا تطمئن فيها الطيور، بأي حال، إلى السلوك البشري إزاءها. العناية بالطير، حينما تكون هناك عناية، تنطلق أساساً من دافع أناني، من مشاعر التملك، وهو دافع أراه يتحكم حتى في صلة المواطن الغربي بالحيوان حين يكون الحيوان ملكه، وإلا كيف يمكن تفسير إخصاء ذكور حيوانات المنازل هناك، كيف يمكن تفسير اختطاف الحيوان من جنسه وفصيلته ومن مكانه في الطبيعة والحجْر عليه في منزل المالك؟
هذه بعض اعتداءات منظمة ومصطنعة التبرير مما يمارسه البشر ضد الحيوان. في صلتنا بشركائنا من الكائنات الحية في الكوكب ينبغي أن نتخفف بعض الشيء من غلواء اعتدادنا بـ (تطور) نظامنا العقلي، تجب حمايتها من شراهتنا ونزوعنا للسيادة بالقدر نفسه الذي نحمي فيه أنفسنا من شرور كثير من هذه الأحياء الأرضية. الطائر الضيف الأبيض ظل، بخلاف ما نحن عليه من تفاجؤ واستغراب، مطمئناً غير آبه بأية حركة مما يجري حواليه، جربت بحذرٍ وتردد أن اقترب منه لتصويره بكاميرا هاتفي النقال فلم يغير اقترابي الذي يزداد منه في كل مرة ومواصلتي تصويره شيئاً في ذلك الاطمئنان. إنه الكائن الحي المطمئن الوحيد في المكان ما بين بشرٍ تمتزج سعادة المفاجأة لديهم بالقلق والخشية على الطائر من أن يعكّر وجودُهم وأيُّ تصرف منهم سلامَه وإحساسه المدهش بالأمان.
كيف يمكن التفاهم على ذلك مع طير؟ لا خبرة تسعف في مثل هذا التفاهم المرجو.
لقد جيء له بالماء وبما يمكن أن يأكله. لم يفكر أحد بقفص له؛ لقد جاء هو بمقتضى حريته إلى مكان من الصعب أن يغامر طائر مثله ، معتمداً على غريزته، فيكون فيه، ويجب أن يستمر في المكان أو يغادره بموجب هذه الحرية وحدها.
إنها الحرية التي سمحت له خلال الأيام التالية بتجاوز رواق الحديقة والتنقل، ماشياً وطائراً، من خلال الأبواب والنوافذ وشرفاتها إلى حيث يشاء من غرف المنزل وجدرانه. لقد عرفنا صنفه بين طيور الحمام، فقد أكد أكثر من عارف بالحمام المحلي ممن شاهدوه في المنزل أنه من صنف حمام الأورفه لي.
بعد أيام كان سرب من الحمائم الداجنة في أحد البيوت القريبة يمرّ تحت السماء المطلة على حديقة المنزل، وكان لغريزة الحياة مع النوع والاندماج بالجماعة أن تستثير طائر الأورفه لي الأبيض، فصفق جناحيه بحيوية وحلق مرتقياً الفضاء ومغادراً المكان باتجاه السرب. بقي إناءا الماءِ والطعام في جانب من رواق الحديقة ينتظران أوبة الطائر. وفعلاً بعد يومين كان الطائر قد هبط في لحظة مفاجئة للمنزل.
لقد كان حضورُه هذه المرة حضورَ زائرٍ فردٍ إلى عالم خاص وأثير كان قد مر به وأقام فيه لأيام، إنه مرور اشتياق وزيارة إلى المكان، وليس لمواصلة الإقامة فيه. لم يلتهم شيئا مما تُرك له، تحرك بخطوات رشيقة على حجر الرواق لدقائق وأدار عنقه بالرشاقة ذاتها باتجاهات المكان المختلفة قبل أن يحرك جناحيه ثانيةً ويغادر المكان.. دائماً الحياةُ تمضي بالفرد مع سربٍ، بينما العالمُ الخاص هو عالمٌ تحكمه الفردية وتتحكم بموجبه بفردٍ يظل وحده يقدّر طبيعة الحاجة إليه والكيفية التي يستأنس بها فيه.