وحتى الآن لم يقصّر الكلام في هذا المسعى القاتل؛ لم يبقَ شيء لم يُقل، لقد قيل من الكلام ما يكفي لإشعال حروب متعددة الجبهات وليس حرباً واحدة.
اختلط التهييج السياسي وبالتهييج الحربي، واستُخدمت بالهياجين المشاعر والعواطف والنوازع البشرية بمختلف طبائعها الخيّرة والشريرة، وكما لو أننا لم نعش الحرب يوماً ولم نتعرف على مراراتها وانكساراتها وحرائقها.
لم يعد صعباً أن تجد على أجساد وأرواح العراقيين بمختلف قومياتهم وطوائفهم آثار الحروب وجراحاتها.
إنها جراح وندوب وآثار ليس من اليسير على الزمن محوها وتطييب خواطر الناس مما لحق بهم جرّاءها وأودى بحياتهم ومصائرهم إلى ما هي عليه من غمٍّ ونكد وبؤس.
ربما كان الكرد العراقيون أسبق من بقية مواطنيهم من القوميات الأخرى بالوقوع تحت وطأة الحروب والمعارك وما خلفته فيهم من جراح وندوب، وأتعس الندوب هي تلك التي تدمي الأرواح وتترك تقرحاتها في الدواخل الإنسانية، لكن سوى كرد العراقيين فإن الآخرين من مختلف القوميات والطوائف انتهوا أخيراً ولعقود لأن يكونوا تحت وطأة هذه المرارات والفظائع التي نكبت حياتنا ومزّقت قلوبنا.
ربما كانت الأجيال الجديدة من المواطنين الكرد بعيدةً شيئاً ما عن الأثر الحي للحرب وويلاتها ومآسيها، لكن الوعي العام لا يصنعه الأثر المباشر فقط؛ التاريخ والطبيعة والوعي الجمعي يحمل كلّ منها من الخبرات، مرّها وحلوها، ما يكفي لأن يتردد المرء منا مليونَ مرة قبل أن يتفوّه بما يذّكر بالحرب والسلاح والموت والدمار.
فكيف بالعراقيين الآخرين الذين ما زالوا جميعاً تحت كوابيس فظاعات الحروب التي عشنا فيها منذ الثمانينيات وها نحن حتى اليوم ندفع حرباً بأخرى أسوأ منها.
يكفي أن نقول إن الهياج السياسي الحاصل بشأن استفتاء وإمكانية انفصال الإقليم وما يصاحبه من تهييج هنا وهناك للمشاعر القومية والوطنية يحصل وتنتفخ به الأوداج فيما هناك قوات وأبطال في الجبهة الغربية يضحون صامتين بدمائهم وأرواحهم من أجل تحرير العراق، كل العراق، من بشاعات الإرهاب، وفيما هناك أيضاً في المدن والقرى المحتلة عائلات تتضور ألما وخوفا وجوعا وهي تنتظر فرصة الخلاص والتحرر والعودة إلى كرامة الوطن ونعمة الأمن والسلام.
نسمع الصراخ والزعيق والاستهتار السياسي بمشاعر ومصائر الناس كما لو أننا بعيدون عما حطم الحياة وشوّه عَيشنا ووسّخ مشاعرنا، وكما لو أننا لم نتجرّع ما يكفي من سمِّ الحروب والدمار ليعصمنا ويقينا من أية دعوة للحرب والقتال والاقتتال.
مَن لا يعبأ بمصير الوطن فليهتز ضميره لمصير المواطنين.. لا فظاعة أكبر من تُحطَّم حياةُ إنسان واحد حين يكون ممكناً تفادي هذا التحطم. فكيف بمن يدفع مصائر الملايين إلى هاوية ونفق لا أحد يعرف كيف يمكن أن تكون نهايته، لكنها نهاية لن تقوم بأي حال إلا وقد أهرقنا الكثير من الدم واطفأنا الحياة في الكثير من الأجساد.
الإنسان بنيانُ الله، وملعونٌ من هدمه.