يجب الإقرار أن الأزمة لم تعد عراقية داخلية خالصة، بين سلطات اتحادية وحكومة الإقليم.
السلطات الاتحادية تخوض معركتها من أجل وحدة العراق على محورين؛ محور داخلي تعمل بموجبه (حتى الآن) باجراءات إدارية وسياسية دستورية، وقد تستتبعها اجراءات قضائية، ومحور التنسيق مع الأطراف الإقليمية من جانب والأسرة الدولية من جانب آخر.
سلطة الاقليم تراوح بين اطلاق إشارات عن رغبة بتسوية الأمور من جانب، ومن جانب ترك المجال للصقور وأشباه الصقور للتصريح بما من شأنه المزيد من التأزيم.
المتوقع أن الوقت لا يسمح بالمزيد من المناورة. لابد من حسم الوضوح في الموقف من قبل سلطة الإقليم.
ما زالت السلطات الاتحادية حتى الآن تستطيع أن تضبط تحركها الداخلي بما تشاء.. لكن مع مضي الوقت على مزيد من الاجراءات المشتركة مع الأطراف الاقليمية فإن هذه السلطات، ومع تأخر الحسم في كردستان العراق، قد تكون يوما في وضع لا يمكنها معه وقف التداعيات التي تحصل بالعلاقة بين حكومة الإقليم ودول الجوار.
هذه الدول لها مصالحها وليست أجيرة لأحد. الوقت كالسيف.. لا خيار سوى الشعور بالمسؤولية إزاءه من قبل سلطات الاقليم. المتدخلون العراقيون بالوساطات يجب أن يفهموا ذلك ويُفهِموا سلطة الإقليم به. المناورة وطول البال ليسا دائما أسلوبا صحيحا في العمل السياسي.
***
في (الجبيلة) بالبصرة، في (الصريفة كامب) في الجبيلة، مضيت مع والدي إلى أول مجلس عزاء حسيني أحضره في حياتي. كان هذا في مطلع الستينيات إذ كنت طفلاً، وكان المجلس بربعةٍ من تراب يُرشّ بالماء ويفرش بحصائر القصب، وكانت الربعة أمام قصر ومضيف صاحب المجلس المرحوم الحاج حسين حمود، أحد أبرز شيوخ عشيرة البهادل حينها. شبانٌ من عمال موانئ وجنود وشيوخ عجزة وتجار صغار وبعض أطفال هؤلاء يلتئم حشدهم كل مساء على تلك الحصر بصمت وخشوع محاطين بالسواد الذي يظل يرفرف حواليهم طيلة الأيام العشر الحزينة. لم تكن مكبرات صوت في المكان لكن صوت المقرئ كان يملأ الحي كله شجنا وألما وكبرياء. بينما كانت شهقات الحضور تتصاعد أمواجاً لا يعلو عليها سوى صور الواقعة ومأساتها كما ترسمها مخيلة طفلٍ، إنها مخيلة انطبعت بروح المأساة وبالثقة بالحرية والإيمان بقيمة العدل. هذا الطقس الذي يحضر كل عام كانت أيامه، بخلاف المتوقع، تمضي سريعةً، فتختفي معها الطقوس، وتطوى الحصران، وتختفي أكواب الدارسين الساخنة، لكن شيئاً ما يظل حاضراً وينمو في وجدان وأعماق الطفل عن فداحة الشعور بالظلم والحاجة إلى العدالة والنفور من طغيان القوة والاستبداد. تلك الشعائر بالبداهة التي كانت عليها لم تمّحِ صورتها ولم تفترقوة حضورها المعتمل في العقل والضمير.
أشتاق إلى ذلك التراب وإلى تلك الحصر المبللة وإلى الصوت الشاهق بلا مكبرة صوت، وإلى كوب دارسين ما زال طعمه في فمي. في عمق كل عراقي شيء من الحسين. وفي وجدان كل منا بعض من المأساة.