يمكن، بل من المطلوب دائماً، مراقبة ونقد جميع السلطات النافذة في البلد، أي بلد ديمقراطي أو يريد أن يكون ديمقراطياً، ويمكن أيضاً أن يبلغ هذا النقد حدّ التجريح القاسي، ويكون مقبولاً.
يحصل هذا في كثير من الديمقراطيات المتقدمة فلا يخدش الكلام القاسي والجارح ضد مسؤول أو سلطته شيئاً ولا تترتب عليه عقوبات، ويحصل في ديمقراطيات غير منضبطة فيكون رديفاً للفوضى ومجانية الكلام ولا مسؤوليته.
النقد مقبول والإساءة ممكنة للسلطات بدرجات مختلفة تقررها طبيعة النظم السياسية والقوانين النافذة في البلد.
القوانين تتسعُ فيها مجالاتُ الحرية كلما تطورت طبيعتها الديمقراطية والعكس صحيح أيضاً.
لكن هل تجوز الإساءة والتعريض الخادش للبلد، كبلد، ولكل ما هو بتماس مع رمزية هذا البلد، كالعلم والنشيد الوطني والسلام الجمهوري أو الملكي، وسواها من رمزيات هي ملكٌ عامٌّ مشاع لجميع المواطنين وهي بعض من القيم الاعتبارية العامة والمشتركة للأمة؟
لا أحسب أن دساتير الدول تعنى بهذا الشأن بشكل ملحوظ ولافت.
الدساتير لا تنشغل بما هو بدهي، واحترام وحب البلد هو الشعور البدهي الأول الذي يجعل من المواطن مواطناً.
ما لم يتشرف المواطن بوطنه ويعتز ببلده لن يكون هناك من معنى لأن يكون مواطناً.
يمكن للكراهية أن تتجه ضد النظام والسلطة أو ضد المعارضة وحتى المجتمع بشكل عام، يمكن للمرء التعبير عن هذه الكراهية بأية طريقة سلمية مهما بلغت درجة اختلافها وقسوتها الكلامية، إنما الإساءة للبلد ولرمزياته المختلفة شأن آخر تجعل المسيء بوضعٍ غير سويٍّ، وضع لا إنساني. في التاريخ أمثلة كثيرة عن هجرات مثقفين ومفكرين ومعارضين سياسيين وغير سياسيين عن بلدانهم، وهذه الهجرات عادةً ما تقترن بظرف معين أو بسيادة نزوع واتجاه ما وهيمنة قيم وسلوكيات تبعا لذلك تكون سبباً في الهجرة، لكن لم أقف في آثار هؤلاء المهاجرين على ما يشير إلى شتم البلد والتجديف على رمزياته، في كل حال يكون النقد وحتى الشتائم، تنشغل بما هو مهيمن في هذا الظرف غير المرغوب فيه وتمني زواله. هذا ما يعمل عليه المختلف المعارض بموجب ما يراه صحيحاً وما يؤمن به من قناعة قد تكون صواباً أو ضلالاً، وهذا غير مهم. البلد ورمزياته الاعتبارية هي من المقدّسات العامة المشتركة بين الجميع.
ليس هذا من المثاليات، وبالتأكيد لا صلة له بالمزايدات الوطنية والتنطع بها؛ الوطن، وطالما المرء حاملٌ لجنسيته، هو بعض من شرفه الشخصي.
فشلنا كبشر في أن نصحح الحياة التي نعيش فيها لا ينبغي إلقاء تبعته على البلد. بالعكس من هذا فإننا، كبشر، هم مّن يتحمل مسؤوليات تشوّه البلدان وتحطّمها وخراب الحياة فيها. احترام هذه القدسية لا يتطلب رادعاً قانويناً ليكون سلوكاً وبداهة، لكن ترسيخ هذه القيم يحتاج إلى جهد ثقافي وتعليمي تربوي وخدمي مجتمعي ومؤسسي، ولعل بلداً مثل العراق يستحق الكثير من هذا.