في 1924 انفعل عدد من رجال الدين في بعض مساجد بغداد فأطلقوا حملة هوجاء ضد مجلة (الصحيفة) التي أسسها حسين الرحال وضد هيئة تحريرها وكتّابها. كانت الحملة تستهدف جانباً من سياسة المجلة التي كانت تحثّ به على حرية المرأة وتذكير المجتمع بحقوقها، ومنها حق التعلّم.
لم يكتف كثيرٌ من خطباء المساجد بالنقد والاعتراض على ما كانت تقول به المجلة، فقد تمادى النقد حتى بات على لسان بعضهم تحريضا علنياً على العنف والقتل. هذا ما فعله خطيبٌ حين دعا صراحةً إلى قتل عوني بكر صدقي، وهو من جماعة مجلة حسين الرحال، ليتوارى الرجل عن الأنظار. بعض أشقياء بغداد تلقفوا هذه الدعوة الدموية، مثلما تلقفوا دعوة سابقة مماثلة ضد الشاعر جميل صدقي الزهاوي للسبب ذاته. الشقيُّ، وهو شخص يكون عادة منبوذاً اجتماعياً، يجد فرصته بمثل تلك الدعوات ليكون من خلالها حامياً للأخلاق وسيفاً منفذاً لأوامر حرّاسها، وليستعيد بهذا اعتباراً يأمله إلى معنى خروجه الشاذ عن المجتمع والقانون.
لا يعرف الأشقياء حينها من هو عوني بكر صدقي، ولا يدركون دواعي التحريض ضد هذا الرجل الذي يبحثون عنه ليقتلوه، لا يعرفون أساساً ما الحلال والحرام تماماً كما حصل بعد عقود مع قتلة فرج فودة في مصر، وكما حصل فيها بعده لنجيب محفوظ.. الأشقياء لا يفضّلون سماع الخطباء إذا ما دعا داعٍ منهم للفضيلة ولاحترام الناس وأملاكهم، لكنهم يسمعون فقط مثل هذه الدعوة القاتلة.لم يعرف أولئك الأشقياء مَن هو مرادهم ليقتلوه، فحصل أن أطلقوا النار على آخر سواه بداعي أنه يشبهه. لقد كان هذا المستهدف (البريء) محظوظاً إذ نجا من جريمة الاعتداء عليه، أنها جريمة مرت بسلام ومعها امتصت الغضب ضد صدقي. ما أكثر ما يكون الرصاص، وهو يضلّ الطريق إلى هدفه، أشد رحمة من البشر. في تلك الواقعة منح رجلُ دينٍ نفسه سلطة إطلاق حكم ضد إنسان، وتلقف هذا الحكم رجال متمردون على القانون فمنحوا أنفسهم حق تنفيذ الحكم.
لقد أزيحت الحكمة والعدالة جانباً، وقبلهما أزيح العقل.
ففي المساجد نفسها، وبعد هذه العقود، لم يعد رجال الدين ليواجهوا حرجاً بالتأكيد على حق المرأة بالمساواة وبالتعلّم والعمل. النصوص الدينية والاجتهادات الفقهية التي اعتمدها رجل الدين البغدادي في 1924 ليستنكر بموجبها حقَّ المرأة وتعلّمها هي نفسها التي يلجأ إليها ويعمل بموجبها الآن رجال دين معاصرون ينادون بتلك الحقوق، لكن أسلوب التصرف بتلك النصوص هو المتغير بالحالين؛ حال التشدد والتعنت، وحال الحكمة والتروي. إنها مشكلة وثيقة الصلة بالعقل والتفكير وليست بالبعيدة عن السياسة أحيانا كثيرة. فخلال التاريخ دائماً ما كان هناك طرفان من الرجال متقابلان متعاكسان في أسلوب قراءة المتون الدينية وكيفية التصرف بموجبها أو بها.