ما لم نفكر فيه هو ماذا أبقينا نحن أبناء الأجيال التي عاشت عقود الحروب والطغيان والحصار والارهاب والعنف الطائفي والفساد لأجيال ستلينا.
دائماً هناك ميراث وتركات يخلّفها السابقون لينعم بها اللاحقون.
ترى أي ميراث، وأية تركات ستظفر بها أجيال المستقبل منا نحن الذين سنكون أجدادهم؟
أمر مفزع إذا ما فكرنا بهَول ما جرى تبذيره وإحراقه حيناً وسرقته حيناً آخر.
أجيال الحاضر هي مَن يشعر بأنها قد سُرقتْ ونُهبت، لقد خسرنا أعماراً، وها نحن نفيق على خسران كل شيء.
هذا الشعور بالخسارة لا يعفينا من التفكير بحق التالين في أن يرثوا شيئاً.
الميراث من الممكن أن يكون أموالاً منقولة وغير منقولة. لكن في حال الدولة فإن الجانب الأهم من الميراث هو حسن التخطيط والاستثمار الذي من الممكن أن تأتي نتائجه لتكون من حصة أجيال لم تولد بعد.
لم تعمل الدولة العراقية بأي تخطيط منذ عقود.
وواقعاً لم نبقِ حتى على نفاياتٍ قد تكون مفيدة لناس المستقبل.
في سنوات الحصار والجوع استفدنا من النفايات فاجتازت بها عائلات محنة الحصار. ففي التسعينيات، آناء الحصار، تحدّث لي أصدقاء عن مهنة استجدت، وكانت الحاجة هي الدافع لابتكارها، وكان مجال عمل ممتهنيها عند ضفاف دجلة المتاخمة لشارع النهر في الرصافة، حيث أكبر تجمع لمعامل صاغة الذهب ومحال تصنيع الحلي ومتاجر بيعها طيلة العقود الماضية. عند هذه الضفاف، وفي مجاري المياه التي تأتي من المحال والمعامل لتصبّ في دجلة، كان شبان يبحثون عن (لقى ذهبية)، لقى كانت لا قيمة لها في ما مضى فأُهملت وتُركت، كانوا يبحثون عن نثار الذهب المتطاير من حرفيي الصياغة أثناء عملهم، مما لم يكونوا يعبأون له ولقيمته فيُكنس ويرمى أو تأخذه مياه التنظيف باتجاه المجاري، وكان هذا يتراكم على مدى عقود من دون أن ينشغل به أحد.
لكن الجوع يبتكر الحلول. بانهماكهم وجد هؤلاء الشبان الكثير من فتات وشظايا الذهب مما كان مترسّباً عند ضفاف النهر، وكان هذا مصدرَ دخلٍ جيد لهم ولعائلاتهم في تلك السنوات. لقد حفظ الطين والأوحال ذلك الذهب (الفائض) عن اللزوم إلى يوم معسرةٍ، وهل أتعس من معسرة التسعينيات. يومها كان كثير من البغداديين يعيشون على مخلّفات العائلة ومما وورثته من تحفيات وأنتيكات، فيما وجد أولئك الشبان ضالتهم عند طين الضفاف وأوحالها.
وأتذكر هنا العنوان اللافت لديوان الشاعر ياسين طه حافظ (في الخرائب حليةُ ذهب)، إنه ديوان صدر في غضون تلك الأعوام. لقد نبّه الحصار وطموح هؤلاء الشبان معامل الصياغة ومحالها حيث ركّز مالكوها وحرفيوها جانباً من جهدهم ووقتهم لالتقاط وجمع نفايات ذهبهم قبل أن تأخذها المكانس أو تجرفها مياه التنظيف إلى النهر.
اليوم لم تعد هناك حتى نفايات ذهبية على ضفة نهرنا الخالد.