عدتُ وصديقان لي من البصرة فتهنا؛ الشوارع والأحياء تغيّرت تماماً عما كانت عليه حين عشت فيها طفلاً ثم عدتُّ إليها، لبضع سنوات، شاباً.
في المرات الأخيرة التي زرت فيها البصرة كنت دائماً أضلّ الطريق للخروج من المدينة أوالدخول إليها، مع هذا ما زلت أصرّ في كلِّ مرة على أني الأعرف بالبصرة وبطرقها.
التغيّرات كثيرة، وكان الأكثر من بينها هو التشوّهات التي أحدثها فقر الناس من جانب وفاقمها جهل وفساد الإدارات من جانب آخر، فضاعفها سوءُ الخدمات أو انعدامها، وغياب سلطة البلديات وعجزها عن الحفاظ على القانون التخطيطي المدني والمعماري للأحياء والشوارع.
في المدن يتيه المرء مع تصاعد البناء والأبراج، لكن في هذه المدينة نتيه ما بين تفاقم الخرائب.
الأحياء التي أعرفها ما عدتُ أعرفها.
أمرّ بشوارعها الرئيسة فلا أهتدي إليها؛ لقد تراجعت بمعظمها وتوارت خلف بناء وسكن عشوائي اضطراري.. يدخل القادم إلى البصرة فيتفاجأ باختفاء الكثيرِ من أحيائها خلف بيوتٍ متهالكة ودكاكين مشوَّهة أقيم معظمها في الواجهة، استثمارا للأرصفة وللمساحات المتروكة لحدائق لم تُشيَّد.
بين هذه الخرائب جرى استحداث بعض الطرق والمجسرات، وكان هذا بخلاف ما أُريد منه، يسهم في تضخيم المتاهة التي يدوخ بها القادم إلى البصرة. كثير من الطرقات هي أيضاً تبدو قد استحدثت بحكم الاضطرار.
استشهد هنا بطريق مضيت فيه بالخطأ؛ كنت أريد العودة إلى بغداد باستخدام طريق طفولتي القادم من العشار عبر شارع دينار إلى الجبيلة فالاندلس فالمعقل فمحطة قطار المعقل فشط الترك فالأبلة فخمس ميل فالطريق إلى بغداد..
ضللت الطريق فكنت في شارع لم يكن موجوداً من قبل، إنه شارع ترك المحطة خلفه على يساري واندفع وسط أحياء عشوائية حتى انتهى بنا إلى مساكن متهالكة برغم جدّتها، وقد بدت قريبة من الهارثة، فقد لاح مدخل جامعة البصرة من بعيد عالياًعلى الخرائب الواطئة التي مضت فينا السيارة ما بينها بشارع متعرِّج ويفتقر إلى أدنى المواصفات المتوقعة لشارع حديث النشأة.
كنت أصرّ على أني الأعرف بالمدينة من صديقيَّ اللذين لا يعرفانها، لكنني، وكالعادة، ضللت الطريق.
استعنت بالطيبة البصرية فأوقفتُ سيارةً قادمة من اتجاه معاكس وسألت سائقها عن طريق بغداد، لم يحر الرجل جواباً، فقد استدار بسيارته مباشرةً، وجعلها أمامنا، دعانا ليستضيفنا، شكرناه معتذرين، فطلب أن نتبعه حتى الشارع الرئيس، فثمة أكثر من طريق فرعي قد نضيّع في إحدها السبيل إلى بغداد.
لم يكن التصرف غريباً عليّ، ولم يكن غريباً على صديقيّ، مَن من العراقيين لا يعرف هذه الخصال البصرية الكريمة؟
سوى الطيبة، ووسط الخراب، ظفر البصريون أخيراً بجسر عملاق يوصل ما بين جانبي شط العرب.
إنه تحفة.
لكن كم من التُحف ما يمكن أن تضيع قيمتها إذا ما تركت وسط خراب وخرائب؟