كنت الخميس الماضي أنتظر تلفوناً من قاسم محمد عباس يقرّر فيه ما إذا كنا معاً نمضي ( مفترضاً خلال هذا الأسبوع) إلى بيروت، ليُجري فحوصاتٍ وعلاجاً هناك، أو لا نمضي.
وكان هذا مرتبطاً بنتائج تحليل مختبري ببغداد، وما إذا كانت النتائج توجب السفر أو لا. جاءني التلفون الخميس، ولكن لم يكن من قاسم.
كان من صديقنا المشترك الدكتور نصير غدير. وكان قاسم محمد عباس فيه هو المفاجأة الصاعقة.
***
أؤمن أن الصداقات العظيمة هبات نادرة لا يلقّاها إلا ذو حظ عظيم.
الصداقة النادرة زيادة في سعة الفرد في الحياة.
نحن كائنات محدودة بكل شيء في هذه الحياة.
ما يظلّ ينمو منا ويتسع هو العقل والخيال والعاطفة.
الصداقة هي الاختيار العملي للعقل والعاطفة.
لكن من الصداقات ما يساعد على توسعة الخيال.
صداقتي مع قاسم محمد عباس كانت منتجةً حيويةً في تنمية العقل والعاطفة والخيال.
سأكتفي هنا بإشارة سريعة عن نزهات يومية أخيرة كانت لنا معاً، ربما هي قليلة، لكنها كثيرة بثرائها.
كان هذا يحصل في نهارات شتائية مشمسة.
أيُّ فراغ يتاح في أثناء العمل سيكون مكانه ممشى قصير ما بين حديقتين.
سيكون الممشى فضاءً لامتناهياً، الأفكار والخيال يضفيان منهما، من روحهما، سعةً ورحابةً على محدودية المكان.
الفكرة تستنهض فكرةً، والخيال يحفّز خيالاً.
الصداقة منتجة بهذه الحيوية التي تسمو فيها على أعباء الواقع.
لا ينبغي لبؤس اليوميات وفقر مجرياتها أن تأتي على جمال الروح وغنى العقل.
بعض الصداقات تدفع إلى الاندحار في نتن مجاري اليوميات، فيما الصداقات النادرة هي التي تشذّب حدائق العقل وفراديس الروح مما يعلق بها.
في غمرة هذا التنزّه نكون في نزهات كثيرة بالوقت نفسه، نزهة في المكان، وهي وسيلة لنزهات أخرى أبعد من ممر قصير وأوسع من حديقتين واقعيتين صغيرتين.
من يرانا، ونحن ما بين الحديقتين، يرى تنزها في المكان.
واقعاً نحن ننسى في آن التنزه أن زملاءً وزميلات لنا يتطلعون عبر نوافذهم إلى هذين الاثنين الماضيين رواحاً ومجيئاً في ممشى قصير.بعض من يعرفنا عن قرب وحده من بين هؤلاء مَن يشير متسائلا: أين مضى بكما الخيال؟
***
بموت قاسم محمد عباس لا أستعيد إلا جمالاً.
ليس في هذا من مفارقة؛ ما الذي تتوقعه من صداقة حين لا يحفظ تاريخها سوى الجمال؟
***
قبل يومٍ على خميس التلفونات كنت قد وضعت على صفحتي بفيسبوك صورة تجمعني بالصديق والأستاذ عبدالرحمن طهمازي على مائدة إفطار صباحي بإحدى سفراتنا الثقافية.
ومن بين التعليقات الكثيرة التي دونها أصدقاء على الصورة وقفت عند تعليق الصديق الشاعر طالب عبدالعزيز، وكان يقول فيه: "أنت محظوظ يا أبا حيدر؟".
وجدتني أردّ على التعليق بالتعليق التالي:
"بصداقاتي؟ نعم، أنا محظوظ يا صديقي".