كما لو أنه كان يريد أن يقول كلَّ شيء في أقل وقت متبقٍّ لديه ظل طيلة الاتصال الهاتفي ما بيننا لا يقف عند أيٍّ من المرّات الثلاث التي أعدت فيها عليه رغبة أصدقاءٍ في أن يلتقوه، في بيته، أو بيتي، أو في مكان مناسب آخر.
لم يتوقف عند هذا الطلب، حتى أنه لم يتظاهر بعدم السماع.
كان يسمعني، وكان يدرك ما أريد، لكنه كان بلباقةٍ يريد تجاوز ما يسمع. كان يتحدث في اشياء كثيرة، وكان يريد منّي أن أصغي من دون أن يطلب ذلك لي.
كان يدرك تماماً أني أتحدث عن موعد مستحيل، لقد فات الأوان، لحظة الموت هي التي تطوف، وهي الأجدر بالتحقّق من أي موعد آخر سواها.
حصل هذا في آخِر تلفون بيني وبين صديقي الكاتب والروائي والباحث والمحقق قاسم محمد عباس.
كان الأصدقاء الذين كلفوني بترتيب الموعد مع قاسم شعراء وروائيين وباحثين وفنانين عراقيين، معظمهم عائد من الغربة، وكانت مناسبة معرض بغداد الدولي للكتاب هي ما جمعتهم وجمعتني بهم.
كانوا، بمعظمهم، قد تابعوا مرض قاسم محمد عباس الذي أقعده في البيت، وآثر معه العزلة، وكان تجمعهم معاً ببغداد مناسبة بالنسبة لهم للعمل على عيادة الصديق. منذ عامين بدأ المرض يستبدّ.
هكذا فجأة تنهار وسامة فتى وحيوية رجل وتطلّع أديب ورصانة باحث، هكذا فجأة يبدأ كل شيء يذوي، ويشحب كلّ ضوء.. لكننا بشر.
لكننا بشر نظل نثق بالحياة، أو نوهم النفس بهذه الثقة، هكذا لم نتصوّر، أو لم نرد أن نتصوّر أن قاسم سيموت بمثل هذه السرعة التي اندفع فيها جسده إلى الانهيار.
في التسعينيات، وما بعدها، لو كنتَ قد شئت أن تسأل أيَّ صديق من أصدقائنا عن شخص هو مثال الثقة بالحياة وجمال العيش فيها فسيكون قاسم، من بيننا، هو مثاله الأقرب إلى العقل والوجدان واللسان.
وسامته الجسدية والروحية وأناقة حياته الخارجية والداخلية معا هما التعبير الأوضح عن حيوية قاسم محمد عباس وسط حياة اجتماعية بات يحطّمها البؤس والجوع والخوف والحرمان.
في تلك الحياة الشاحبة كان قاسم ينشئ حيوات أخرى في عوالم أخرى أكثر جمالاً وأرفع قيمةً وأبهى روحاً ويترك خلف ظهره حيوات أخرى. جمال الحياة في المعرفة يغني عن بؤس العيش في حياة قاهرة.
ففي تلك السنوات، في التسعينيات، وفيما كان الجوع يقهر كل ما في الحياة وينخرها ويشوّه معناها، اختار قاسم محمد عباس، برفقة زميله وصديقه حسين محمد عجيل، أن يقيما صداقة مفاجئة مع محيي الدين بن عربي.
وكان لهذه الصداقة الغامضة أن تتطلب عاماً كاملاً من البطالة، في سنوات قاسية لا تحتمل أيَّ مزاج للبطالة.
وفعلاً، ركن الصديقان للبطالة، إنها مما يقتضيه الانصراف عن أي عمل لصالح الوفاء لالتزامات الصداقة مع صوفيٍّ كان قد مات قبل أكثر من ثماني مئة عام.
كان أمراً غريبا وغير متوقع أن تشاهد شابين منتميين تماماً للحداثة ليس في الثقافة والمعرفة وحدهما حسب وإنما أيضاً في سلوكهما وحياتهما وعلاقاتهما فيما هما منشغلان بصداقة مع صوفيٍّ راحل، حتى أن هذه الصداقة، ومع الأيام، أخذت تشتدّ عراها وتتوثق أكثر.
كان الشابان يأتيان كلَّ يوم إلى مقهى الجماهير، ببراهين توثّق العلاقة وتطوُّرَها، وكانت البراهين رُزماً، من أوراق ودفاتر ومخطوطات مصوّرة بالاستنساخ، يأتيان بها ويرميانها جانباً على واحدة من طاولات المقهى لينصرفا عنها إلى حياة المقهى.
إنهما عائدان من موعد بات يومياً مع (الشيخ الأكبر) إلى موعد آخر مع الدومينو ونرد الطاولة ومع نقاشات الشعر والفن والسياسة وأخبار الحرب الواقفة دائماً على الأبواب.
لم يعق ابن عربي الشابّين عن حياتِهما وحداثتها، ولم تعق هذه الحياةُ ونمطها تطوّرَ الصداقة ما بين الشابّين وشيخهما.
في هذا الحين بدأت الصداقة ما بيني وبين قاسم تتطوّر وتنضج وتتعمق.
لا أدري الآن كيف حصل هذا، لكنه حصل، وبات محالاً ألا نلتقي كل نهار. وفي هذا الحين أيضاً أنجز قاسم، في غمرة انشغاله بالصداقة مع ابن عربي، روايته (المحرقة).
بجملة واحدة أستطيع الجزم هنا أنها كانت من الروايات الأساسية الممهدّة للطور التأسيسي الثاني للرواية العراقية الذي نعيش ثمراته الروائية الأنضج في هذه السنوات. كان قاسم محمد عباس قد عاش تجربة خدمته العسكرية في أغرب مكان يكون فيه جندي حين الحرب؛ فقد كان يعمل في محرقة عسكرية يجري فيها تجميع الأطراف وبقايا جثث القتلى مجهولي الهوية وإحراقها.
هناك كان الكاتب الشاب يعمل جندياً مكلفاً إدارياً مهمّته الاحصاء والتدقيق، ومن هناك كانت فكرة وعوالم الرواية التي أخذت من محرقة الأعضاء البشرية اسمها (المحرقة). (المحرقة) من أدب الحرب الذي كان يستحيل التفكير بنشره في تلك السنوات.
تحدّثنا، أنا وقاسم، عن هذا كثيراً في طريق أوبتنا اليومية المسائية من باب المعظم إلى منزلينا في مدينة الثورة والتي نقطع فيها مسافة ما لا يقل عن 15 كيلومترا سيراً على الأقدام وذلك كلما كنا نعود بلا ما يمكن دفعه أجرةً للسيارة.
مرات كثيرة كنا نتمنى فعلاً أن لا نتوفر على هذا المبلغ، متعة الطريق وأحاديثه تزيح وراءها أيَّ عناء للطريق وقد استحال إلى متعة. لم يطبع قاسم محمد عباس رواية (المحرقة) إلا بعد 2003.
كان لقاسم من جمال الروح وعمق البصيرة ما يبدّد أية قسوة كانت تتضخم وتكبر في تلك الظروف، له من روح الشراكة والتعاون وإشاعة الحب ما يغني عن كل ما كان التوفّر عليه محالاً.
هكذا اقتسمنا الدينار، حين يكون مرة بجيبي ومرة بجيبه، وهكذا اقتسمنا ماعون الحساء بلا لحم، وهكذا تشاركنا في كوب الشاي بمقهى حسن وفي علب السكائر الرديئة، وكان الأهم بين كل هذا التقاسم هو اقتسامنا الأسرار.
في هذه الأثناء فاجأنا حسين محمد عجيل وقاسم محمد عباس بتتويج صداقتهما مع الشيخ الأكبر بكتاب.
فقد دُهشنا مرّةً حين حضرا، وما زالا واقفَين، ليعلنا، وقبل الانخراط في طاولة الدومينو، عن انتهائهما من تحقيق رسائل مخطوطة للشيخ ابن عربي لم يسبق تحقيقها وظهورها.
إنها تجربتهما الأولى في التحقيق، وهي (الرسائل) مما عثرا عليه في دار المخطوطات العراقية، وانهمكا بالعمل على تحقيقها خلال أشهر صداقتهما مع ابن عربي.