لم يكن التفجير بالسيّارات المفخخة والعبوات الناسفة قد بدأ بعد في بغداد ومدن العراق الأخرى في الأسابيع الأولى التي أعقبت زلزال 2003، لكن رعب الاغتيالات كان هو بداية رسائل الدم، وكان الأفظع في هذه الرسائل هو غياب أيِّ منطق لها يمكن في ضوئه فهم الشرائح وطبيعة الأشخاص المستهدفين بالقتل والاغتيال. القتلة هم أيضاً مجهولون، وإلا فإن معرفة هوية القاتل يمكن أن تؤدي إلى معرفة هويات ضحاياه.
لم يكن لأحد أن يعرف ما إذا كان هو خارج دائرة الاستهداف ليطمئن أم ضمنها فيتحوّط، إمكانية التحوّط هي أيضاً كادت تكون مستحيلة، أماكن القتل وأوقاته باتت مفتوحة. وكان هذا واحداً من دواعي تكريس غموض القتل وجهل أسبابه. صار واضحاً أن الجميع مستهدفون، بالمصادفة أو بتخطيط مسبق. كان قتلاً من أجل القتل.
لقد بدأ القتل أولاً قريباً من المصارف يوم 9 نيسان 2003 والأيام القليلة التي أعقبته، وكان هذا قتلاً وتقاتلاً بين لصوص ومجرمين محترفين وآخرين يمكن أن يكونوا جدداً أرادوا أن يجربوا حظوظهم بثراء سريع. انتهت هذه المقاتل سريعةً؛ المجرمون واللصوص حاسمون في مثل هذه الأحوال، وكان عتاة هؤلاء قد أفرج عنهم بالعفو العام الذي سبق الحرب، فكانت أيام ما قبل الحرب بالنسبة لهم أقرب ما تكون إلى حالة كمون كانوا أثناءها خلايا نائمة لم تستيقظ إلا على وقع الانهيار العظيم، فكانوا الأسرع وصولاً إلى المصارف الصغيرة والكبيرة.
كانت مداخن بغداد وحرائق بناياتها الحكومية وتواصلُ هدير الرصاص طيلة ساعات اليوم الأربع والعشرين خلال تلك الأيام الأولى ستاراً كثيفاً لحركة المجرمين، المحترفين منهم والهواة الجدد. وكان التقاتل مابينهم لا يشغل شيئاً من بال المجتمع الذي نظّم نفسه بحراسات ليلية في معظم الأحياء البغدادية لحماية الدور السكنية والعائلات والأملاك والمحال والمتاجر الخاصة. هكذا وجدت نفسي في نوبات حراسة ليلية في الزقاق الذي أقيم فيه، وكانت هذه وسيلة لاطمئنان نساء العوائل وأطفالها ولتزجية ليل طويل، ولا عمل في النهار الذي يليه، أكثر مما هي مهمة أمنية.
لكن تصفيات القتل والاغتيالات تكثفت بعد أقل من أسبوعين على التاسع من نيسان. كان ما يشغل الأحياء هو دوافع القتل. ولعل هذا الانشغال هو إجراء لا واعٍ يريد بموجبه المنشغل به أن يطمئن إلى أنه خارج دائرة الاستهداف.
تحدّثت عن هذا في كتاب (واقف في الظلام) حيث رصدت أن المجتمع، عبر أفراده المقيمين قريباً من محيط أية جريمة، يأخذ بالبحث في حياة القتيل عن أي سبب يجعل القتل (مبرراً). الضحية، بموجب هذا، يكون هو سبب مقتله، فيما يظل القاتل شبحاً يزداد توارياً كلما تضاعفت (اكتشافات) المجتمع لأسباب قتل القتيل، حتى بات كثير من هذه الاكتشافات مجرد اختراعات من نسج الرواة والمتحدثين ومحللي وقائع القتل. يعمد هؤلاء إلى نسج حكاية عن القتيل ومقتله بالاعتماد على شيء من تاريخه، وحتى إن لم يجر العثور في حياته على ما يكفي لتبرير القتل، فإن الراوي أوالمحلّل قد يمضي إلى تلفيق وتصنيع الداعي ليملأ به الفراغات في القصة بما ينسجه خياله، كما يفعل الرواة القدامى، لتكتمل الحكاية ويتبرر القتل. هذه القصص كان يجري نسجها وذلك باستبعاد أي قرب متوقَّع لها من حياة وتاريخ الفرد الراوي أو المحلّل وذلك ليطمئن هو، وهذا هو الأهم، إلى أنه لن يقتل ما دامت مواصفات داعي القتل لا تنطبق عليه. إنها حالة ضعف إنساني حين تعيي الإنسان الحيلة لضمان حياته.
بعد أسابيع حصلت أمامي أول جريمة قتل في هذا السياق المرعب. فقد كنت وزملاء صحفيون آخرون بدأنا عملنا من أجل تأسيس جريدة المدى في بغداد، وحصل أن تبرع صديق لنا بمكتب كان يملكه في شارع فلسطين بجانب الرصافة من بغداد. كان الصديق يدير بالمكتب عملاً صيرفياً لتحويل العملة قبل 2003 وتوقف عن عمله بعد التاسع من نيسان، فتفضل بتسخير المكتب لنا كمكان مؤقت لتأسيس الجريدة وانطلاقها.
في واحد من أيام العمل بهذا المكتب، وكان صباحا ربيعياً، خرجت وزميل لندخّن ولنتطلع في الحركة الراكدة في الشارع حينها.
يكاد يكون المكان مقفراً من الناس، ليس أمامنا سوى رجل شيخ يقترب من السبعين، ببجامة نومه يجلس على كرسيٍّ أمام باب منزله، إنه مثلنا يتطلّع في ذلك الفراغ إنّما من الجانب الآخر من الشارع، بين حين وآخر تمرّ سيّارة مسرعة، قليل من المحال هي ما جرؤ أصحابها على فتحها، بينما على رصيف بعيد كان صبيّ يبيع سكائر وعصائر لا أعرف لمن يبيعها في تلك الوحشة.
فجأة هدر صوت رصاص، كان صوت توقّف سريع لإطارات سيارة سبق الرصاص، وأعقبها هدير المحرك وصخب الاطارات على الشارع واختفاء السيارة بعدما أطلق ملثّمون فيها النار على الرجل الشيخ. انتصب الرجل واقفاً، وبحركة سريعة استدار نحو المنزل، كان الدم ينزف منه، وهو يجتاز الباب بخطوة أو خطوتين، ليتعثّر إثرهما ويتكوّم في الرواق الموصل ما بين باب المنزل وما أتوقّعه مطبخ البيت.
مات الرجل، وظل الفضاء الفارغ مليئاً بصراخ نسوة اجتمعن حوله، وتناده جيرانٌ من أجل نجدةٍ باتت، بعد موت الضحية، مستحيلةً.
لم أقوَ على مواصلة العمل يومها. غادرت الجريدة مباشرةً، وكان نهاري كلّه مغطى بسواد الجريمة.
الجريمة وحدها ظلت هي الحاضرة بوحشيتها في ظلام النهار الربيعي، كان شبح الشيخ الساعي إلى نجاةٍ في منزله من الرصاص، ولم يبلغها، قد ظلّ يتكرر ويحوم وسط ذلك السواد.
كان من التفاهة التفكير بسبب.
لم أبحث عن سبب لجريمة مقتل شيخ في السبعين. كان مطمئناً، فأراد أن يقضي صباحاً هادئاً بباب منزله، فسبقه الرصاص.