في واحدة من الصور الفوتوغرافية التي التقطت لحظةُ، ربما عابرة، من السنوات الأخيرة للكاتب الفرنسي لويس فرديناند سيلين، كان سيلين فيها يبدو مثل أي مشرد، وكان سيلين مشرداً فعلاً. كانت معه في تلك زوجته الراقصة الفرنسية، وكان مما تفخر به هو اقترانها بالمتشرد فرديناند سيلين مثلما تفتخر بأصلها الأندلسي. لم تُظهر الصورة الزوجةَ الأندلسية.
كان يكفي للصورة أن يكون الكاتب فيها وحيداً. كان يكفيه أن يتكئ على كفه وزنده وأن يتكئ هذان على ركبته، ليس له إلا جسده، وقد تضاءل. كان مُطرقاً، كما لو كان يريد تفادي الكاميرا والصورة. إنها انحناءة من يقف على خرابٍ، خرابِ حياته والعالم الذي مضت فيه هذه الحياة. لقد مضت به الحياة في مسارين؛ كان الأدب أولهما، وقد توّجته راويته الأولى (رحلة إلى آخر الليل) مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي كواحد من كبار كتاب فرنسا، بينما كان الفكرُ مسارَه الثاني، وهو مسار تراجيدي دفعت السياسة بموجبه الفكرَ إلى تعصّب إيديولوجي ظلّ يتنامى حتى انتهى به، بالكاتب، إلى مصير جعله قريباً من النازية.
وقبل المسارين كان سيلين قد تخلى عن مسار آخر بدأ به حياته في العمل، فقد كان طبيباً ومارس المهنة قبل أن يتخلى عنها لصالح عمله الأدبي، وقبل أن تطيح السياسة ولوثاتها بهذا الخيار الأدبي. (رحلة إلى آخر الليل) كانت عملاً روائياً مدوّياً في حينه. موضوع الرواية الناقم من الحرب العالمية الأولى حفّز اليساريين الذين وجدوا فيه صوتاً للمسحوقين الناقمين على النشاط العسكري.
لقد دفع هذا بأراغون ليعمل من أجل أن يكون سيلين في صفوف مثقفي اليسار الفرنسي، فيما سيرى هنري غودار بعد حين فيه” متشائماً راديكالياً”، بينما كانت إلزا تريوليه قد عملت على ترجمته إلى الروسية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية. يمضي (المتشائم الراديكالي) في المسار الآخر منصرفاً عن المجد الأدبي، ومندفعاً بالكراهية والتزمت والولاء للنازية حتى قيل إنه كان متعاوناً أمنياً مع النازيين حين احتلالهم بلده فرنسا. إنها تراجيديا المصائر؛ كان سيلين يفضّل أن يقدّمه الأدب، من خلال روايته (رحلة في آخر الليل)، على أنه داعية سلام، فإذا بالسياسة تأخذ به إلى أتعس خياراتها، خيار الكراهية والتطرف والعنصرية، لينتهي أخيراً، بعيداً عن مجد الأدب وقريباً من عار السياسة، إلى حال بائس تظهره الصورة الفوتوغرافية فيه وقد انحنى على الحطام، حطام كل ما فقد وما جنى.
كانت غاليمار العام الماضي تفكّر بإصدار طبعة لجانب من كتاباته ذات الصلة بموقفه النازي، كان موعد إصدار هذه الطبعة هو عام 2018، لكن مؤخراً ترددت غاليمار فارجأت الفكرة إلى أمد (غير محدد)، من يجرؤ على ذلك؟
الحكومة الفرنسية لم تجرؤ على أن تضع باقة ورد على قبر سيلين حين مات.
ولم تجرؤ بعد وفاته بسنوات لتضم اسمه إلى جنب أسماء 500 شخصية وحدث ثقافي مهم. في اللحظات الأخيرة جرى رفع اسم سيلين من هذه القائمة.
لم يكن سيلين هو ذاته قادراً على إنقاذ نفسه؛” ليس سوى أن تموت أو أن تكذب” كان يقول، وكان يضيف: ”شخصياً أنا غير قادر تماماً على قتل نفسي.“
لم يكن يائساً، يبدو أن لحظته في الصورة التي أمامي كانت قد تجاوزت بكثير إمكانية أن ييأس، اليأس يتطلب شيئاً من الأمل، لا يمكن أن تيأس ما لم تكن منهمكا بأمل لم يعد مجدياً. لم يعد للحالين، الياس والأمل، من ذكرى في حياة الكتاب. كان، كما تقدمه الصورة، كمن يقف على الفجيعة، فجيعة أن يكفيه القول:”لم يكن لدي تصوّر كبير عن نفسي ولا من طموح، كل ما أردت هو فرصة للتنفّس وتناول الطعام بشكل أفضل“.
***
يمكن أن تندحر سيرة حياة الكاتب بينما يمكن أيضاً أن تتواصل سيرة حياة الكتاب. ريما تضررت الرواية، رواية سيلين (رحلة إلى آخر النهار)، بتعاسة سيرة الكاتب. لكن الرواية بقيت تحتفظ بقيمة استثنائية في تاريخ الرواية الفرنسية. للكتبِ سيرُها الشخصية كما لمؤلفيها سيرُهم. والسيرتان، سيرة الكتاب وسيرة مؤلفه، تلتقيان حيناً وتفترقان أحياناً أخرى.
فسيرة الكتاب، وقد بات منشوراً ومتداولاً، تتداخل فها سِيرٌ كثيرة أخرى سوى سيرة المؤلف؛ حياة الكتاب مع قراء ونقاد ومعلّقين تمضي في عوالم وحيوات أخرى هي ما تظلّ تصنع سيرة الكتاب. وسيرة الكتاب تظل مفتوحةً لنجاحاته ومآسيه، لولاداته التي قد تتكرر من خلال قراءات خلاقة، أو من خلال إلهامه كتاباً آخرين.
الكتاب حياة تؤثِّر وتتأثر، قد تستمر بهذه الحيوية بموجب مسؤولية الكتاب نفسه وبموجب مؤثرات الآخرين أيضاً، وقد يصادفها من حالاتٍ ما تدفع بالكتاب وحياته إلى انكساره وحتى انطفاء حياته.
رواية سيلين لم تمض إلى الظلام الذي كان فيه المؤلف. في عام 1999 ساعد الجمهور صحيفة لوموند الفرنسية باختيار أفضل 100 كتاب صدر خلال القرن العشرين، مستجيبين إلى تساؤلها:” ما الكتب التي لا تنسى؟”، فكانت (رحلة إلى آخر الليل) من بين هذه الكتب التي لم ينسها جمهور القراء كما جرى نسيان مؤلفها. إنها رواية ملهمة ومؤثرة، وتحظى بقيمة اعتبارية خاصة من خلال أسلوب مؤلفها النادر، وقد تشبع بلغة باريسية تخففت من الصرامة الفرنسية لصالح لغة الشارع، وهو ما أغرى سارتر بالتخلي “نهائيا عن اللغة الفخمة التي كان قد اعتادها من قبل”، حسب سيمون دي بوفوار. ولم يردع هذا الافتتان سارتر من أن يكون واحداً أقسى الكتاب الذين ظلوا يهاجمون سيلين عن مواقفه في السياسة.
لم ينس القراء ولا الثقافة الفرنسية هذه الرواية ولم يطلها الهياج الذي طال المؤلف. لكن هذا لم يكن يعني شيئا لسيلين.
لم يكترث لمئات آلاف النسخ التي طبعت من الكتاب والتي تداولها الجمهور.
فهذه النسخ قرئت كلها، لكن نسخة واحدة منها فقط لم تقرأ، وكل ما كان يعني سيلين هو هذه النسخة.. فحينما سئلت الراقصة الأميركية اليزابيث كريغ التي أغرم بها سيلين في شبابه عما إذا كانت تعرف أن رواية هذا الفرنسي الذي لا يقارن الا ببروست مهداة اليها أم لا تعرف، أجابت الراقصة: (الأمرُ يدفع لكثير من الفخر، لكني لم أكن على علم بذلك. كنت هنا في الولايات المتحدة الأمريكية حين أرسل لي لويس الكتاب. لم أقرأه أبدا، كنت عاجزة حتى عن فتحه).