إذا ما أتيح لملايين من فقراء الأرض أن يشاهدوا تقريراً بُثّ علىCNN فمن المتوقع أن كثيرين منهم كانوا سيحسدون نزلاء هذا السجن الذي دخلته القناة وتحدّث مراسلها من داخله إن لم يتمنوا أن يكونوا من نزلائه.
معظمنا لديه تصورات بفعل المشاهدات التلفزيونية والسينمائية، وقد يكون كثيرها مبالِغاً لأسباب فنية وجمالية، عن رفاه الحياة في شقق ومنازل لمواطنين من ذوي الدخول المقبولة في بعض بلدان الرفاه، ومن المقيمين فيها، وربما أتيحت لبعضنا بمناسبات مختلفة ليكون بواحد من هذه الأماكن السكنية، لكن ما قدّمه تقرير CNN عن السجن النرويجي هو صورة أخرى قد تفتقر إليها الخدمات الفندقية في كثير من فنادق الخمس نجوم.
يستغرب الصحفي صانع التقرير أكثر مني، أنا المشاهد، فيسأل نزيلاً في السجن: ماذا تتوقع ردود أفعال الأمريكان حين يشاهدون مكانك في السجن؟
الصحفي يعبّر بمثل هذا السؤال عن دهشة أميركي بهذا السجن، فيما يرد عليه السجين النرويجي بتلقائية: "الأمر يختلف، أنتم تعاملون السجين بشدّة كما لو كان حيواناً".
دعك من خطأ عفوي قاله السجين، فكثير من البلدان باتت تعاقب الإنسان حين يعامل حيواناً بشدّة. فالإنسان مسؤول عن حفظ كرامة الإنسان وكرامة كل ما يحيا على الأرض.
فكرة ذلك السجن قائمة على فلسفة يؤمن بها الشرطي والقاضي والسياسي كما يؤمن بها المواطن سواء أكان حراً أم سجيناً، إنها فلسفة تفيد بأن السجن مكان لقضاء وقت العقوبة، والعقوبة هي تقييد الحرية وليست انتهاكاً للحياة.
هذه قناعة تقدس الحرية؛ لا أقسى على المرء من أن يكون بحرّية مقيدة حتى وإن وُضع في فردوس.
السجين النرويجي الذي ظل يتحدّث بطلاقة طيلة حديثه للصحفي لم يكن كذلك وهو يقول لمحدّثه:" يكفي أن تسلب من حريتك".
كان فجأة قد طغى عليه الحزن، فلم يمنع الحزن من أن يعبّر عن نفسه، إنها مناسبة ليعبر عن حريته في أن يحزن ما دام في مكان جرى تشييده للاستمتاع بحياة يومية طبيعية ولكن لتقييد الحرية وسلبها. واقعاً ليست الحرية مستلبة بالكامل في مكان مثل هذا السجن.
الحرية المتاحة للسجين هناك هي أضعاف ما يمكن أن يحظى به إنسان (حر) في مكان آخر على هذه الأرض.
ما يُقيَّد في سجن باستوي النرويجي هي حركة السجين واتصاله بالعالم الخارجي ومواصلة حياته وعمله وعلاقاته كما يشاء، فيما هو يمكنه (تخفيف) آثار هذه الخسائر حتى وهو سجين، لكن في مجتمع يحترم حرية الإنسان سيكون ثلم أي جانب منها، مهما صغر، انتهاكاً للحرية كلها ولحقّ التمتع بها.
وبهذا فالسجن هو حصر العقوبة بجانب يمسّ فقط الصلة، صلة السجين بالآخرين خارج السجون وبحياتهم العامة المشتركة.
حضارة الإنسان تمضي قدماً كلما اتسعت مساحة السلام فيها وكلما تنامت حدود الحرية.