في مطلع الألفين، ربما في 2001، كان ينبغي أن أهاجر إلى الإمارات العربية، فقد ترتّب كل شيء، لكن في اللحظة الأخيرة لم أهاجر.
كان ظرفَ حصار، وكان بلوغ دولة مثل الإمارات فرصة لا تضيّع، لكني في اللحظة الأخيرة أضعتها، فلم أهاجر، ولم أزر الإمارات حتى اليوم.
وصلتني الدعوة من الصديق العزيز خالد مطلك، وقبلها تفاهمنا لأكثر من مرة عبر الهاتف.
كان خالد من الكرم المعهود بما يجعلني حتى الآن مديناً له.
حال تسلمي الدعوة تحدثت في عملي بجريدة الجمهورية مع رئيس التحرير عن أن الزيارة لن تستغرق أكثر من عشرة أيام أعود منها بعدما أتسلّم مكافآت لي من صحف هناك، كانت المكافآت سبباً حقيقياً، وكان مثل هذا سبباً مقنعاً لتحقيق السفر. أوضحت إن المبلغ بحدود ثلاثة آلاف دولار متراكمة فكان السبب أكثر من معقول، وحين سألني، بمزيج من الجد والمزاح، ما إذا كنت سأقيم هناك إذا ما توفرت لي فرصة عمل نفيت ذلك، وكنت كاذباً بهذا.
أظن أنه لم يصدّق كلامي لكنه كان من الطيبة بحيث تظاهر بغير ذلك. عصر ذلك اليوم تمشّينا، أنا وقاسم محمد عباس وعلي بدر، في شارع السعدون، إذ ظلا يؤكدان، قبل توديعي،على التمسك بالبقاء هناك مهما كانت الظروف. لا حاجة لتأكيداتهما، فقد كنتُ أنا أشد حاجة للسفر والتوفر على فرصة عمل تسمح بعدم الانقطاع عن بلدي، وهذا ما وعدني به أكثر من صديق في دبي، فيما كان خالد ينتظرني باهتمام خاص. بكّرت صباح اليوم التالي في بلوغ دائرة الجوازات للحصول على موافقة سفر (ربما كان بلدنا الوحيد الذي يمنح فيزا مغادرة لمواطنيه، تتجدد مع كل سفرة).
قبلي في الطابور وقف بحدود عشرة رجال منتظرين ضابطاً يدقّق، أمنياً، الجواز وسيرة حامل الجواز، قبل السماح بالسفر أو منعه.
وحين باشر الضابط عمله بدأ الطابور يتقلص، إنما بإيقاع بطيء، كانت تمشية الجواز تلزم حوالي نصف ساعة، كنا خلالها عبثاً نحاول سماع شيء مما يدور بين الضابط وأيّ مواطن يكون بالدور، وكان هذا يفاقم التحسّب، خصوصاً نحن لم نعرف نتيجة أيّ واحد ممن غادروا، فقد كان كلٌّ منهم يستدير محدّقاً بالوجوه بصمت ونظرةٍ خاطفة وينصرف سريعاً بصمت أشدّ.
لم يبق أمامي سوى شاب واحد، كان ينتظر شاباً أمامه لينتهي من حديثه غير المسموع مع الضابط عبر النافذة الضيقة، لكن الحديث استمر طويلاً، وكان الشباب يبدو أثناءه يقترب من اليأس.
كنت أراقب المشهد بقلق.
وكان مَن في الطابور يبحثون في وجوه بعضهم عن جواب،
فلا جواب.
وحين كاد الشاب اليائس يغادر الطابور كنت سبقته فانسللت بصمت وهدوء، وكان هو تائهاً يمشي خلفي،
ويتحدث مع نفسه بألم.
غادرت الضابط والطابور وبناية الجوازات.
ففجأةً كان القرار:
خلاص، لن أسافر.