حزني اليوم كان شديداً على صديق هو أكثر من أخ.. حزين لفقدان محمد الهجول الذي غادرنا ولم يبخل بالمحبة حتى لحظاته الأخيرة التي كان يصارع بها الموت.. ما أبشع الموت، وما أعظم الرجل يتحداه بالحب.
محمد الهجول.. حكاية السجين السياسي والمحرر التشكيلي..
لم يكن قد مضى على بدئي العمل في (ثقافية) جريدة الجمهورية سوى أسبوعين حين جاءني طلب تعيين شاب يريد العمل محرراً للفنون التشكيلية في الجريدة.
لم أعرف اسم صاحب الطلب، ولم يسبق لي أن قرأت له شيئاً في مجال الفن التشكيلي ولا في سواه، لكن تحديده بالضبط العملَ الذي يريد التعيين فيه، وهو تخصص من النادر أن تصادف من هو معنيّ به وبرغبة مسبقة، دفع بي إلى أن التقي الشاب لأتحدث معه.
حين التقينا عرفت أنه خريج كلية الفنون الجميلة وباختصاص فن السيراميك، ولما سألته ما إذا كان قد عمل سابقاً في مجال الصحافة أو سواها أجابني مباشرة: (لا، مع الأسف، هذه هي المرة الأولى التي أتمنى فيها أن أعمل، كنت سجيناً في أبو غريب بتهمة سياسية وخرجت قبل أيام بعد إتمامي مدة محكوميتي).لقد مرّر التوضيح الخطير الأخير بكل هدوء وبتلقائية غير متوقعة.
استغربت كثيراً هذه البداية الصريحة؛ ولم أتردد في سؤاله عن كيفية البدء بمثل هذه الصراحة التي قد تعيق فرصة عمله. فما كان منه إلا أن يبتسم ويواصل حديثه بثقة واضحة وبالتلقائية نفسها: (لا بد من الصراحة، فما يمكن أن أخفيه سيظهر حتماً، وحينها أضع نفسي وقد أضعك بموضع محرج.. تحدثت بصراحة لثقتي بك فأنا أعرفك يا أستاذ، أنت أهل للثقة، والموضوع انتهى وأُطلق سراحي، لو كان للدولة شيء معي لما أطلقوا سراحي كما تعرف).
تناولت طلبه، هذه بداهة وتلقائية لايمكن أن تكون في غير الموضع الصحيح.
يجب أن لا تندحر ثقتنا بهذه القيمة الإنسانية مهما كانت الظروف.. وقعت الطلب وقد أوصيت مباشرة وبلا تردد بالموافقة المبدئية على تعيينه وهي موافقة لا تكتمل ولا معنى لها من دون موافقة رئيس التحرير، أكدت لرئيس التحرير الحاجة إلى اختصاصه، خصوصاً أن زميلة سابقة في (الجمهورية) بالاختصاص التشكيلي غادرت الجريدة وربما البلد قبل مجيئي وتسلمي العمل بفترة.
كان تعيينه بنظام العقد، كما هو تعييني أنا وتعيين جميع محرري القسم (هذه مفارقة لم أنتبه لها إلا الآن وأنا أكتب)، ليس بيننا من كان على الملاك الدائم. وافق رئيس التحرير على الطلب، وباشر محرر الفنون التشكيلية محمد الهجول عمله معي بعد اليوم التالي لذلك اليوم الذي التقينا فيه للمرة الأولى.
يعرف جميع من يعرفني أني إنسان شديد التحسب، وهذا طبع رافقني من بدايات شبابي، وهي بدايات هيمنت فيها أجواء في عموم البلد تستدعي وتفرض التحسب والتحوّط إزاء اي تصرف أو قول أو عمل وإلا فإن الثمن المدفوع مقابل أي خطأ قد يكون باهظاً وقد يطيح بالحرية إن لم يطح بالحياة كلها.
وافقت على تعيين محمد لكني لم أقوَ على منع تحسباتي.
هل هي مصادفة أن يأتي هو بعد أيام على تعييني ليعمل معي؛ هل الأمر كله مجرد اختبار لي، أم ينطوي على ما هو أكبر من حدود الاختبار؟
احتملت كل شيء، لكن لا الإحتمالات ولا التحوطات ولا التحسب كانت تمنعني من تغليب مبدئي القائم على تقديم ما هو إنساني دائماً والركون له قبل أن أكون فريسة للشك والتحسب.
إشاعة روح الشك والتخوف هي أرادة تريد منا تعطيل وتحطيم ما هو إنساني فينا. ومن دون فسح المجال للدوافع الإنسانية نكون قد أسهمنا طواعيةً بمسخ ذواتنا وتذويبها في التيار الأهوج للجبن والركون لموت أية قيمة فينا.
باشر محمد الهجول عمله، ومنذ الأيام الأولى اشتغل بمثابرة واجتهاد وحرص لم يتوقف معه عند حدود عمله التشكيلي، بل بتّ بعد فترة قليلة أغادر مطمئناً على متابعته الصفحات مع التصميم والتنفيذ وتدقيقها وحتى لاحقاً تحرير المواد الواردة، وكان هذا من اجراءاتي في العمل مع معظم المحررين العاملين معي بحيث يكون دائماً أي منهم قادراً على أن يسد الفراغ ومؤهلاً لإدارة صفحة ثقافية.
الحياة المشتركة بددت كل المخاوف التي حلّت محلها ثقة واطمئنان كانا يستحقهما محمد بما جُبل عليه من حُسن أخلاق وتهذيب عاليين.
بعد أشهر على اللقاء الأول تصادف إن التقيت بأكثر من صديق مشترك كان مع محمد في (أبو غريب)، وكانت انطباعات الجميع لا تختلف بشيء عن انطباعي الأول عنه؛ رجل مخلص وصادق وذكي وحيثما يكون يشيع جواً من الألفة والمحبة، إنه روح نقية لا يملأها سوى الحب.
أحبَّه الجميع، في القسم الثقافي وفي عموم الجريدة، تزوج من إحدى الزميلات الرائعات.. وخلال عامين صار محمد الهجول واحداً من أكفأ الصحفيين، وهذا ما تأكدت منه حتى مؤخراً في آخر عمل له مديراً لتحرير مجلة الشبكة.
كان يتابع أدق التفاصيل التي تؤمّن تواصلاً طيباً بين المجلة وكتّابها، فيما كانت تصوراته وخبرته تساعده على أن يملأ مكانه باستحقاق من النادر أن نصادفه الآن في الصحافة.
يجب أن أذكر هنا أنه حتى وهو في المستشفى خارج العراق كان شديد الحرص على مواصلة عمله بالإخلاص ذاته؛ الرسائل التي بيني وبينه سواء في الهاتف أو في خاص فيسبوك توضح هذه المتابعة التي أوهمتني حتى ظننت أن محمد آخذ بالتحسن بينما كان واقعاً تشتد عليه المعاناة وتقترب به من الموت.