سيكون أمراً حسناً أن يتنعم المرء بحرية القول والتعبير والتصرف، لكن ما هو أحسن من هذا هو أن يكون المرء قادرا على أن ينعّم نفسه بإرادة القول والتعبير والتصرف بحرية.
الفارق كبير بين الحالين؛ الحرية الأولى تكون مضمونة ومكفولة في مجتمع حر وعادل بينما تظهر الحاجة إلى الثانية حين لا يكفل لك القانون والسلطات
الحرية. (كونوا أحراراً في دنياكم) هي تأكيد من رجل امتلك إرادة الحرية في لحظة كانت الحرية فيها مستحيلة.. وبهذا أراد الإمام الحسين (ع) للناس أن يمتلكوا هذه الإرادة ما دامت الحرية مقيدة وغير متاحة.
التصرف في ضوء الحرية الأولى مأمون الجانب والنتائج، وإذا ما حصلت معه خسائر عرضية، كمنع وحجب امتياز ما، فإنها خسائر محسوبة وهي لا قيمة لها مع الخسائر المتوقعة وغير المتوقعة في الحرية الثانية.
لحظة التاريخ التي يكون فيها الناس أحراراً، بمعنى امتلاكهم إرادة الحرية، هي من أعظم لحظات التاريخ التي يجري فيها التمهيد لخلق حضارة والشروع ببناء حقيقي للأمم، وهي مناسبة لا بد منها لإنعاش مبادرات الأفراد وتعزيز طاقتهم في الخلق والابتكار. ولا تكون الأمم حيّة من دون حياة تتنعم فيها الجماعة وتنطلق من خلالها مبادرات الأفراد.
الفترات والظروف التي تُقيَّد فيها الحريات ويعزّ على الناس التمتع بها هي ظروف اندحار وتقهقر لحركة التاريخ أو ركودها في أفضل الأحوال.
ليس من الصعب الآن الوقوف على النتائج المأساوية لتقييد الحريات طيلة أكثر من عقدين حكمت بهما الدكتاتورية العراق. ليس من الصعب ردّ معظم ما نواجه من مظاهر تخلف وتدني الشعور بمسؤولية ازاء الحرية إلى نتائج تلك المرحلة التي لم يركد فيها الوعي الاجتماعي فحسب وإنما تراجع هذا الوعي أيضاً وتقهقر إلى ما هو أطول من عمر العقدين بكثير. وهذه هي مضار تغييب الحرية ومنع الناس من التنعم
بها.
ومما درج عليه التاريخ أن الحريات تبدأ بخيارات فردية، بلحظات يمتلك فيها أفراد إرادتَهم من أجل الحرية.. لحظة خروج الإمام الحسين هي مثال لقوة إرادة الفرد من أجل المبادرة، وهي لحظة لم يشأ الإمام أن يبقيها بحدود صفتها الفردية وذلك حينما خاطب الجموع: (كونوا أحراراً في دنياكم).
في ظروف كثيرة من الممكن لإنسان أن يخسر حريته مرغماً. خسارة الحرية نتيجة باهظة لا يخفّف من هَولها إلا الامتناع عن التورط بما هو أسوأ منها، ولعلّ المصير الأسوأ من ذلك هو مصير فرد أو مجتمع يأتي إلى التنازل عن حريته مختاراً لا مكرهاً حين يتبرع للقيام بما يأبى القيام به حين يكون حراً
فعلاً. الطغاة وحدهم يتحملون مسؤولية مسخ إنسانية الإنسان حين يجردونه عن حريته وحين يستعبدونه..
الطاغية هو عبدٌ بالصميم بتعبير للشاعر محمود البريكان.