أكثر من عائلة من عوائل أصدقاء مهاجرين من الموصل بعد الاحتلال الداعشي التقيتها بمناسبات مختلفة في بغداد أو خارج البلد، وكان يوحّد الجميع دائماً الثقة الأكيدة بأن وجود الدواعش في الموصل هو وجود طارئ ولن يطول به الأمد وأن هزيمتهم ستكون حتى أكثر يسراً من الطريقة التي دخلوا بها أم الربيعين.
تفاؤل هذه العائلات لم يُبنَ على فراغ، وهو ليس مجرد تمنيات؛ إنهم يتحدثون عن تجربة عيشهم في المدينة المنكوبة حين كان المحتلون قد دخلوها وتحكموا في الحياة فيها.
الكثير من هذه العائلات أو أفراد من بعضها لم تُتح لهم مغادرة الموصل إلا بعد أسابيع أو أشهر عاشوا خلالها جحيم الحياة تحت الظل الأسود لحكم الدواعش.
يتحرك الإرهابيون في المدينة كقوة احتلال معزولة عن المجتمع. الفرد الإرهابي حيثما يكون، في الموصل وسواها، هو عقل وسلوك قائم على الكراهية، على سوء الظن الدائم بالناس وبالمحيط الذي يكون فيه.
فكرة الانتقام من الحياة ومن الآخرين تستحضر الإخافة دائماً وإشاعة الرعب، ولا يلجأ لهذا السلوك الشاذ غير ذات هي أساساً تلوثت بالخوف وانطبعت به.
هكذا هو الداعشي في شوارع المدينة المحتلة؛ إيقونة يحركها الخوف وفقدان الثقة بكل شيء وليس لها من رد فعل سوى بث الخوف نفسه كوسيلة للاطمئنان وللبقاء.
يتفاءل الموصليون بقرب وسهولة التخلص من هذا الاحتلال معتمدين على نجاح السواد الأعظم من أبناء المدينة في الإبقاء على هذا الحاجز المنيع بينهم وبين
غزاتهم.
هذه هي الحدود الدنيا من الأشكال الأولية لمقاومة الغزاة، وهي الحدود المتاحة لسكان هم أشبه بالرهائن المختطفين داخل بيوتهم في انتظار لحظة التحرير.
ومن الصحيح أنها حدود دنيا لكن التمسك بها يظل مهماً بالظروف التي يحياها أبناء الموصل والالتباسات المحيطة بالمدينة والبلد.
مع بداية احتلال الموصل كنت قد نشرت رأياً ذهبت فيه إلى ما يعاكس الكثير من الآراء التي كانت ترى أن أي يوم مضاف لوجود الدواعش في المدن المحتلة قد يسهم في تورط بعض الضعاف معهم ليكونوا جزءاً منهم.
كنت أرى أن الطبيعة النفسية والفكرية والسلوكية للارهاب هي طبيعة طاردة للآخرين الأسوياء؛ إنها طبيعة وتقاليد ومعتقدات قائمة على الفرض والقسر والمنع والاكراه، وهي كلها عوامل لا تدعو إلى التجمع والتماسك قدر ما تدفع إلى النفور، وسيكون الانعزال هو الشكل المباشر للتعبير عن هذا النفور المجتمعي من الجسم الغريب الوافد والتحصن منه بالعزلة عنه.
ينتظر الموصليون وصول قوات التحرير.. ينتظرون صابرين استعادتهم لحياتهم الطبيعية بأمان وكرامة.
إنهم يأملون أن لا يطول الانتظار..
الانتصارات الأخيرة لقواتنا هي مما يدعم آمال أم الربيعين وقد سئمت الحياة قرب عصابات خرجت من كهوف التاريخ لتنتشر بكراهيـتها وظـلامها في شوارعها الحــزينة وما بين الناس.