((أيّها المسيح،))
- هل ترى هذه الأشياء؟
- هل تغيّرتَ حقاً وصرتَ غير ما كنتَ عليه؟ استحلفك باسم أبيك الأقدس:
- هل أنت فعلاً أمرتَ بأن يُضطَهد أولئك الذين لم يعملوا تماماَ بوصاياك وبأن يعدَموا غرقاً وأن تمزق أجسادُهم وتقطَّع أحشاؤهم وأن تقطّعَ رؤوسُهم بالسيوف وأن يتم شواؤهم على نار هادئة ببطء ليطول تعذيبهم قبل الموت؟
- هل توافق أيها المسيح على هذه الأشياء؟
- هل هم وكلاؤك حقاً الذين يرتكبون هذه المذابح التي تهرس الناسَ وتقطعهم إرباً؟
- هل أنت هو حقاً الذي يستشهدون باسمه في مثل تلك المجازر الفظيعة، كما لو أن بك جوعاً لالتهام البشر؟
إذا كنتَ أنت فعلاً أيّها المسيح الذي أمر بهذه الأشياء فماذا بقي للشيطان ليفعل؟))
هذا نص لـ (سباستيان كاستيليو) من القرن السادس عشر، وهو مناضل صلب من أجل الحرية ومناهضة استبداد الكنيسة ومحاكم التفتيش.
كتاب ستيفان زفايج (عنف الدكتاتورية) الذي ترجمه مؤخراً الصديق الاستاذ فارس يواكيم كان مكرساً لكاستيليو اعجابا وتقديراً لشجاعته، كتبه بالتزامن مع صعود الدكتاتورية في بلده ومع نُذر الحرب العالمية.
يقول زفايج عما أوردناه من نص كاستيليو:
لو أن سباستيان كاستيليو لم يكتب سوى هذه المقدمة لكتابة (مقاله في الهرطقة) ولم يكن فيها سوى هذه الصفحات لتوجب أن يخلد اسمه في تاريخ الانسانية.
النص يتحدث عن عنف وتكفير ووحشية داخلية، داخل الديانة المسيحية، كانت تمارس ضد مسيحين من قبل مسيحيين.
وهو عنف كان قد مارسه التشدد المسيحي مع طغيان محاكم التفتيش وتفشي نزعة ادعاء تمثيل الله والمسيح واحتكار صلة الناس بالإله والدين من خلال (وكلاء) الله على الأرض.
إنهم وكلاء يكون المرء عبر ممرهم فقط مؤمناً أو لا يكون.
إنهم (رجال دين) يستعيدون من الطفولة الانسانية أدوار آلهة أرضيين يغضبون ويرضون، وبغضبهم يقتل البشر ويحرق وتحز الرؤوس بالسيوف وتشوى الأجساد ببطء على النار من أجل المزيد من التعذيب في هذه الحياة الدنيا قبل الانتقال إلى جحيم الحياة الآخرة بمنظور هذا التشدد المنفلت من أية طبيعة إنسانية.
لا تختلف وحشية التطرف الذي كان قد اختطف الجوهر العظيم للتسامح المسيحي وأظهره بهذه الصورة التكفيرية البشعة عما يحصل بعد محاكم التفتيش الكنسية وذلك بعد قرون وفي داخل ديانة أخرى حيث يختطف التشدد الإسلاموي الآن، في أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، جوهراً آخر للعفو والرحمة الإلهية الإسلامية ليظهر على أيدي متشددي المسلمين بنزوع تكفيري أعمى.
مثل هذا الاختطاف وذاك ليسا ضرورتين لا مناص منهما ولا حياد عنهما.
بعد محاكم التفتيش وتشددها وتكفيرها وبعد اندحار تلك المحاكم لم تضع المسيحية ولم تختف وإنما استعادت طبيعتها الروحية العميقة، لم تخسر المسيحية بزوال تلك المحاكم سوى الصورة المشوهة عنها وسوى جدار دموي أراد التكفير اقامته بين الله والبشر.
هذان النزوعان، في تاريخ المسيحية وفي الإسلام، هما وجهان معبّران عن سوء استخدام التأويل أو التفسير، حيث تعاني كل ديانة وكل معتقد يقوم على نصوص أساسية مقدسة مما يمكن أن يفعله ظلام العقل البشري باختطاف قداسة الدين والنيل منها واستخدامها بموجب ما يقتضيه ظلام العقل وبما تفرضه نزعة التجبر والاستكبار على البشر الآخرين، مؤمنين وغير مؤمنين، من سادية تدميرية ومن انفلات للشر والجريمة ولكن هذه المرة تحت تسميات مقدسة؛ باسم المسيح بموجب محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وباسم (الله أكبر) بموجب القاعدة وتفرعاتها الأخرى في الألفينة الثالثة.
لقد ارتفعت صيحة (الله أكبر) مع ظهور الإسلام لا لتكون صرخة تنذر بالموت والقتل قدر ما أرادت التعبير بوضوح عن تكافؤ البشر وتساويهم وعن أنْ ليس هناك من هو أكبر إلا الله.
ولعل أبشع استهتار ليس بالدين وبالانسانية حسب وإنما حتى في التعامل مع الذات الإلهية من هذا الاختطاف الذي يجعل من (الله أكبر) شعاراً رديفاً لاحتقار الإنسانية والحياة والعبث بهما وبمصيرهما على الأرض.
نجح المسيحيون في تحرير أنفسهم وتحرير مسيحيتهم من طغيان محاكم التفتيش، وينبغي للمسلمين، العرب منهم على أوجه أخص، أن يتحرروا ويحرروا معهم ديانتهم من هذا الإجرام التكفيري.