الشعر يتحدى: حدود العاطفة وأوجاع الفراق في قصيدة الشاعرة اللبنانية الشابة سوسان جرجس " هرباً من العتمة "قراءة الشعر الحقيقي وليد أزمة كما تقول Melissa Tuckey ميليسا توكي الناقدة والشاعرة والمترجمة الأمريكية، وهو يعيش أي الشعر ظروف تلك الأزمة وأحوالها يحمل معه الآمال والتناقضات التي يمكن أن تحرك مشاعر الشاعر العاطفية تجاهها والرؤية الأكثر وضوحا له في استكشافه لهذه العواطف التي هي محض خلق لحالة أو كجزء من التنقيب غير العشوائي لها أو كجزء من تجربة تعكس حالة الأزمة التي يعيشها، والشعراء لديهم الكثير لتقديمه هنا على وجه الخصوص فقد أعطوا صوت الآهة والألم لتلك الأزمات ومن يقرأ نص الشاعرة اللبنانية سوسان جرجس " هربا من العتمة " سيتعرف على ذاك الصوت الحامل معه خوفا أبديا لو اقتربنا منه لشعرنا به وبكم الألم والحزن والمعاناة، هو نداء يسحبنا مثل الريح كما في مفتتح نصها:
تناديني الريح ....
أغادر النور محتضراً
في أنفاسي، صورة عتيقة لعاشقين
تخضبا بجمال الخطيئة ...
بطهرها .... وسموّها
أملاً في الإنعتاق من الرؤية القاصرة ....
مغمضة العينين
والروح مبصرة .... صراخ الجوع ....
بكاء العريّ على بردنا
على برد أرواحنا
المغرّبة في أجسادنا
ولأنني مؤمن بأن حركة النقد الأدبي وكما عبر عنها الناقد المصري د . صلاح السروي في كتابه"تداخل النصوص والأنواع الأدبية" الصادر عن جامعة الزقازيق 2009 حيث قال :
" تنشغل الآن هذه الحركة بدراسة الغني منه والتنوع الرؤيوي والأسلوبي داخل النصوص الأدبية المعاصرة والتي صارت حافلة بظواهر التداخل النوعي للأجناس الأدبية وتوظيف تقنيات بعضها البعض توظيفا واعيا وذلك حتى تكون قادرة على التعبير عن أزمات واغترابات الإنسان المعاصر الذي يعيش عالما سريع التحول والتغيير ، كثير الإشكاليات والصراعات، وأقل ما يمكن أن يقال بهذا الشأن هو صراع الفرد وكثير من المجتمعات في هذا العالم بين عولمة نمطية تلغي الحدود والهويات وتذيب الفوارق والملامح المائزة وبين هويات وقوميات تحاول جاهدة أن تستعصم بخصائصها وتحافظ على ما تبقى من سماتها المميزة ، العرقية والفكرية والمجتمعية " ، ولذلك جرجس يمكن لي أن أدعوها وهي تمارس اشتغالاتها هذه بالسردية الشاعرة فهي تكتب السرد شعرا الذي غالبا ما يكون في أسلوبها تماثل للقصة القصيرة ، هذا الأسلوب وجدته في " حكايات كانتر بري " للشاعر الإنكليزي جيفري تشوسر ( 1343 – 1400 ) الذي ابتدع هذا النمط من الخليط الشعري السردي الذي يقول عنه الناقد المغربي الكبير د . محمد مفتاح في كتابه " تحليل الخطاب الشعري / إستراتيجية التناص / الصادر عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء – المغرب:" ثمة مسلمة تقول إن السردية تتحكم في كل خطاب مهما كان نوعه "، وأظنها الشاعرة قد أطلعت عليه فهي واسعة الثقافة وتشتغل على عصرنة وحداثوية سواء من خلال قصصها القصيرة أو الشعر ، ففي الأبيات الأولى من قصيدتها " هربا من العتمة " تحكي عن ذاتها لذكرى صورة قديمة لعاشقين يمكن أن يرفض المجتمع عشقهما هذا فهي بالتالي تستهجن فعل مجتمعهما المتمسك بالأعراف القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب، فتذهب في المقاطع الأخرى من القصيدة لتحكي ما جرى لهذا الحب بأسلوب السرد الشعري:
الحب يمسح دمعه
متأسفاً.... يلوح بمنديله
على طريق الفراق الملعون
بتخمة الشياطين....
قهقهاتهم....
بغائهم....
ألعابهم النارية...
أقنعة الهالوين
وأرواح الموتى
ولما كان الشعر وليد أزمة كما قلنا بداية فعلينا أن نتخيل تغيير طرق تفكيرنا ونحن ندونه بيتاً بيتاً، وأن هناك الكثير من المفاهيم والمعتقدات الواجب تغييرها ، لم يكن الشاعر الأمريكي ذائع الصيت عزرا باوند ليعلمنا من خلال شعره أن الظلم الاقتصادي يتدفق من الظلم البيئي لولا إحساسه به والخطر المحدق الذي يمكن أن يلحق ضررا فادحا بالمجتمع الذي عاشه آنذاك ، هذا الضرر أصبح بعد عقود طويلة من تحذير باوند استباحة موجعة لا تريد المغادرة كما في سردية الشاعرة جرجس:
عارية هي القيثارة
دون وتر ....
صامتة، أمام استباحة البحر
لضحكة طفل
غلّفتها أوراق الخريف .....
أما أوجاعي
أما أوجاعي التي أبكت الموت ...
على فراقك.... وفراقي
فهي متشبثة بأرضي ....
بعنقي .... بدمع عينيّ ....
بأمراض وقّعت معي
عقداً أبدياً ....
فالأوجاع قد امتدت إلى أن نتساءل :
أين أنا؟ أين أنت؟؟
ما لنا افترقنا، على حدود قبلة باردة ....
وعناق يتيم، عند وتد خيمة للاجئين ....
عند وتد خيمة، جرفها المطر الأسود
وأنت تنشد لي، أغنية الصمود المخنوق.
هذه اللائحة الطويلة من ضرب التشبيهات جميعها تجمعت لتعلن التشاكلية السردية مع النص الشعري التي يمكن أن نفهمها بشكل حدسي يدعونا لتخيل ما مر على الشاعرة من وجع تريد استبداله بفرح يمحي ما علق بوجه العالم من زيف تقاليده وازدواجيته ومعاييره المتبرقعة بأقنعة زائفة:
تمسح بدمعك
فوق خاصرتي المثقوبة....
تكفّن ذاكرتي، التي نهشتها الذئااااب....
مذ رفعوا راية الله
وداسوا على كرامة الإنسان....
تحاول أن تحييني بقبلة....
ولا تدري أني عابرة إلى الضفة الأخرى
من العالم.... حيث لا قناع...
لا شيء إلا ذكرى شفتيك
تحت المطر.