في وقت واحد من هذا الشهر الرواية العالمية تخسر اثنين من أكبر روادها
هاربر لي وأمبرتو إيكو
الموت ليس مصادفة، لكنه قد يلتقي في وقت واحد وفي أمكنة مغايرة وبعيدة ليخطف أرواح من سقطت ورقتهم إلى الأبد، هنا كان الموت على موعد في أمريكا وإيطاليا على السواء فقد غيب يوم الجمعة 19 / شباط من هذا العام اثنين من الأسماء اللامعة في عالم الأدب والرواية، كانت أولهما الروائية الأمريكية الشهيرة هاربر لي (89 عاما) الحائزة على جائزة البوليتزر الأدبية المعروفة على النطاق العالمي كأشهر جائزة أدبية بعد نوبل منحت لها بسبب روايتها " To Kill A mocking bird ان تقتل طائرا بريئا" التي عالجت من خلالها قضية التفرقة العنصرية في بلادها وأدى الأسلوب المحكم الذي تناولت فيه الرواية هذه القضية إلى جعلها مؤثرة على نحو خاص ويمكن تلخيص موضوع الرواية في النصيحة التي قدمها المحامي أتيكوس فينتش لابنته الصغيرة سكاوت قائلا: "لن تفهمي شخصا حتى تأخذي الأمور من وجهة نظره حين ترتدين جلده وتعيشين فيه".
تصدرت هذه الرواية مبيعات الكتب منذ صدورها قبل أكثر من 55 عاما حتى الآن والتي تم تكييفها للسينما العالمية بفيلم قالت عنه الصحافة العالمية أنه أيقونة الروايات المعدة للسينما حيث قام ببطولته النجم الهوليوودي الشهير غريغوري بيك الذي أصبح صديقا حميما للروائية لي، الفيلم حاز على جائزة الأوسكار بعد ذلك كأفضل فيلم يتم إنتاجه عام 1963 ، وبعد تلك العقود الطويلة فاجأت القارئ الأمريكي بروايتها الثانية "GO SET A WATCHMAN اذهب وضع حارسا" وهي بمثابة استكمالا لما بدأته في روايتها الأولى عن موضوعها الرئيسي العنصرية والتي طبع منها حتى الآن أكثر من مليون ونصف المليون نسخة. وكانت هاربر لي على مدى سنوات عديدة امرأة خجولة لم تتزوج قط وعاشت في عزلة وهدوء ورفضت دوما طلبات إجراء مقابلات معها، وحين تعرضت لسكتة دماغية فقدت من جرائها سمعها وبصرها وقضت أعوامها الأخيرة معتمدة على مساعدة الآخرين في مونروفيل حيث فاضت روحها هناك.
أما أمبرتو إيكو الإيطالي ذائع الصيت والذي فارق الحياة في منزله في ميلانو عن (84 ) عاما بسبب مرض السرطان فقد كانت ولادته في العام 1932 في مدينة "ألساندريا" الواقعة في إقليم "بييمونتي"، وكان أبوه جوليو مُحاسباً كانت له رغبة شديدة في تعلم إيكو المحاماة، لكنه عدل عن ذلك مفضلا التخصص في فلسفة القرون الوسطى وآدابها، وما إن حصل على شهادة الدكتوراه عام 1954 حتى بدا في تدريس الفلسفة في جامعة تورينو والعمل في الإذاعة الفرنسية والصحافة محررا للشؤون الثقافية إلى جانب عمله في دار نشر "بومبيني" والتي استمر فيها حتى العام 1957، وحتى سنّ الخمسين لم يكن الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو معروفاً في المشهد الثقافي الإيطالي على نطاق واسع سوى بمؤلّفاته النظريّة في فلسفة اللغة والتأويل والدلالة، مع أنّه كان فيلسوفاً عارفاً بأدب القرون الوسطى ومُنَظِّراً رفيع المستوى لبنية النصّ الأدبي ورموزه وعلاماته.
ولم يجرؤ رائد السيميائيّات (علم العلامات والأدلة والرموز ويدخل فيها اللسانيّات وفلسفة اللغة) على دخول ميدان التطبيق العملي لأفكاره النظرية إلاّ في العام 1980 عندما قدّم أولى رواياته "اسم الوردة " مكتسحا من خلالها المشهد الروائي هناك بعمل متكامل فنيا وفكريا وليعلن عن نفسه منذ ذلك الحين واحدا من أهم الروائيين المعاصرين في العالم، والرواية تحكي عن الراهب ويليم الذي يلتحق بالدير فيجد أمامه سلسلة من جرائم القتل الغامضة التي يذهب ضحيتها رجال دين فيه ولأنّ "ويليم" يمتلك قدرة على التحليل المنطقي فإنّه لا يستسلم للاعتقاد السائد بأنّ الجرائم سببها الأرواح الشريرة فيبدأ رحلته مع الأسرار التي تكشف له وعلى نحو مثير أنّ القاتل يعيش في أروقة الدير، ويروي أمبرتو إيكو حكايته المشوّقة هذه متّكئاً على مخزون هائل من المعرفة في خطاب القرون الوسطى. وفي روايته الثالثة التي نشرها عام 1994 بعنوان "جزيرة اليوم السابق"، يذهب إيكو إلى الوراء أربعمائة عاماً تقريباً ليعرض حرب الإمبراطوريات الكبرى للحصول على خريطة خطوط الطول والعرض على سطح الكرة الأرضيّة والتي ستسمح لمن يمتلكها بمعرفة موقع أساطيله التجارية والحربية في المحيطات البعيدة وهو ما يعني فرض هيمنته على الجميع. إنّها رواية عن الدماء التي سُكبت من أجل اكتشاف صغير يدعى خطوط الطول سيغيّر مجرى التاريخ. وفي ذلك العام سيقدّم إيكو كتاباً نقدياً عن التأليف الروائي بعنوان "ستّ نزهات في غابة السرد" ثمّ سينتظر حتى مطلع الألفية الجديدة ليقدّم روايته الرابعة والمهمّة "باودولينو" التي تجلّى فيها خياله الخصب وقدرته على التحكُّم في عناصره الفنية عبر حكاية تاريخية يتنقل خلالها البطل باودولينو" الذي يشبه "دون كيخوت" "بين أزمنة مختلفة وأماكن متنوّعة واقعية وخيالية، وأسطوريته عاش خلالها لحظات سقوط القسطنطينية وحارب جماعة "الحشاشين"، والذي يلتقي بمثقّفي باريس وبفيلسوفة الإسكندرية المتنوّرة هيباتا، كما سافر إلى الفردوس المفقود بحثاً عن حقيقة الأسطورة اليهودية..
وفي روايته "مقبرة براغ " الصادرة عام 2010 يكشف إيكو النقاب عن بعض الحقائق التاريخية التي يتمّ التكتُّم عليها أو إخفاؤها وذلك من خلال اختلاق شخصية متخيّلة تسرد تفاصيل مثيرة بحيث يبلور المزج بين الحقيقة والخيال فيقدم صورة روائية تستمد قوّتها من التاريخ والواقع وتكتسب تفرّدها من نسبتها إلى الخيال الروائي.. أصدر إيكو آخر رواية له عام 2015 بعنوان "العدد صفر" ينتقد من خلالها نظريّة المؤامرة التي رافقت اغتيال موسوليني من خلال التحقيق الصحافي الغريب الذي يقوم به الصحافي براغادوتشيو، إذ يعتقد الروائي الإيطالي الراحل أنّ نظريات المؤامرة تنتشر بشكلٍ غريب عبر مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وبرحيلهما تكون الرواية العالمية قد فقدت اثنين من أشهر كتابها ومع أن إيكو كان في قمة نشاطه الأدبي وحضوره الكبير فيه، إلا أن هاربر لي لم تكن كذلك فقد كانت كسولة كما نعتها النقاد وقد اعتزلت الحياة الاجتماعية بصورة عجيبة، لكنها ظلت في الذاكرة حتى صدور روايتها الثانية.