كتابة / نينا مارتيرز
كلما أجلس لقراءة فرانز كافكا تتجسد أمامي همومه اليومية خاصة في علاقته بأبيه وهي العلاقة التي شابها الكثير من التوتر فهي تكاد تكون متجذرة منذ الصغر والتي دفعته على إدمان الكحول بأنواعه ثم المرض، لكن المحيّر في كل تلك الهموم التي عانى منها وانتهت حياته بسببها كتاباته الكابوسية التي تبدو مضحكة أحيانا والعديد منها كانت من أحلك ملهياته بما في ذلك قصته "التحول" التي تحكي عن بائع متجول يسافر ليجد نفسه فجأة وقد تحول إلى حشرة قبيحة، هذا الإحساس ظل متجذرا معه ويزيد في خوفه مع أنه يحمل سخرية لاذعة حاول معها تبديد ونسيان أصل العلاقة المتوترة مع والده المستبد بالكتابة كما يروي ذلك زوج شقيقته كارل هيرمان، ولكن إذا كانت هناك ذاكرة لأيام صباه فسوف تفصح عن تألقه من خلال ما قدمه من أعمال مع كل ما كان يقربه من الموت بسبب مرض السل الذي أصابه وراح مجبرا إلى إحدى المصحات بالقرب من فيينا عسى أن يشفى منه ولما لم يوفق عاد القهقرى ينتظر رحيله ساعة بساعة معاقرا الخمرة حتى ينسى مكابداته، هذا ما ذكره الباحث راينر Stach بكتابه المترجم مؤخرا من الألمانية إلى الإنكليزية" هل هذا كافكا؟
99 اكتشاف " مسلطا الضوء في أحد فصوله على متعته الكبيرة في تناوله المدمن لمشروبي البيرة والنبيذ اللذان يصفهما بالمضاءين بنور الشمس المنعشان لروحه، حيث يقضي معهما عدة ساعات سعيدا وهو يعب عدة كؤوس منهما حيث تزوره في خيالات سكره تلك الشخصيات التي لا تريد مفارقته هيرمان الصاخب صاحب المتجر الذي عمل معه وكان يتلقى منه كل خشونة وزجر وكذلك ابنه وبناته الثلاث وكيف كان يجلس معهم للطعام خائفا يرتجف من أبيهم حيث تناول تلك الذكريات في 36 رسالة له، ووالده الذي كتب له 47 رسالة مشوبة بعضها بالعاطفة وبعضها بالعذاب، هؤلاء كانوا أبطالا لقصصه الغريبة التي كان يعكف على كتابتها في غرفته المسكونة بالأشباح كما يروي ولم تكن عائلته لتبدي أي اهتمام لما آلت عليه أحواله في هذا النزل الغير صحي على الإطلاق، وهو يعب كأسا آخرا يتذكر كيف انتهت المصالح المشتركة مع أبيه حيث لا لغة مشتركة ولا فعل آخر بينهما وأصبح تناول المسكرات هو القاسم المشترك بينه وبين ذكرياته تلك كما كتب راينر ذلك في سيرته متناولا إحدى رسائله لوالده يقول فيها:
"كان هناك صمت كئيب في جدول طعامي معكم دائما ما كان يتخلله العتاب وكأنني آكل لأول مرة معكم فكثيرا ما تقول أسرع، أسرع، أسرع مع أنني كما ترى كنت أنتهي منه سريعا دون تدخل منك حتى دون أن يكون هناك تصدع للعظام مع الأسنان، ولكن هل يمكن ذلك دون صخب هل يمكن ذلك؟
وأمركم أن أقطع الخبز بالسكين مع حرصي على عدم إسقاط شيئ منه على الأرض مع أنك في النهاية كان تحت مقعدك الكثير من الخبز المتناثر، حدث هذا كله على طاولة واحدة لم تسمح لي بالدفاع عن نفسي سوى فتح فمي للطعام الذي وجدته مختلطا بعد ذلك مع قطع الأظافر وعيدان تنظيف أذنيك مع المسواك أبي الذي أرجو أن تفهمني بشكل صحيح وهذا ما حز في نفسي فقد تكون تفاصيله تافهة تماما في نظرك، لكنني أصبحت محبطا بسبب تلك الوصايا المفروضة منك عليّ".
رسالة كافكا هذه الوحيدة التي حظيت بإعجاب وثناء والده بحسب ما أخبرته بها أمه والتي قال عنها في رسالة أخرى: "كنت قادرا حينها على تناول ذلك الطعام الحار حتى مع شرب البيرة دون علم والدي بما أفعل مع أنه كان ممتعضا مني بسبب تناولي لها بكثرة حيث لم يكن يفقه سر تلك العلاقة بيني وبينها"، راينر ذكر ذلك في فصل طويل من سيرته التي كتبها عن كافكا والتي استغرقت ثلاثة مجلدات حيث يذكر أيضا ذهابه مع والده للسباحة والذي كان يحمل جسما قويا وقامة طويلة بمنكبين عريضين، بينما هو يشعر بالعار والفرح بنفس الوقت من منظره فهو نحيف، ضعيف، لا يقوى النظر لمن حوله مخافة أن يجدهم يسخرون منه، لذلك كان يهرع لتناول كوب من البيرة أو النبيذ كي ينسى تلك المناظر التي دائما ما تشعره بعدم الارتياح في حياته.
ومع أنه غالبا ما ينظر لكافكا كشخصية منطوية أو مجنون في المخيلة الشعبية كما يقول مؤلف السيرة عنه، لكنه يريد تغيير تلك النظرة، يريد منا أن نفكر به بعيدا عن كونه مصاب بالعصبية ومتاهة اللامنطق كما كان يصفه بعض مناؤيه، عبقري هكذا يريده راينر حيث قدم لنا روائع أعماله بصرف النظر عن التشاؤم في قصصه التي فرضتها حياته القصيرة عليها ووفاة شقيقين له عندما كان صبيا وثلاثة من شقيقاته توفين في الهولكوست أثناء الحرب العالمية الثانية.
أما هو فقد توفي نتيجة لمرض السل الذي أصابه عن عمر ناهز الأربعين عاما وبشكل درامي لا يصدق حتى أنه لم يتمكن في أيامه الأخيرة من بلع الطعام والشراب الذي استمتع به طويلا وحتى الماء لم يتمكن من شربه، أصبح هيكلا عظميا لا يستطيع الكلام إلا همسا وفي مرحلته الشديدة من المرض تلك تلقى رسالة قلقة من والديه يريدان رؤيته، لكنه كان يتمنى أن لا يتحقق ذلك بسبب حالته تلك ما جعله يكتب لهما قبيل وفاته في 2 يونيو / حزيران 1924 يذكرهم بأيامه الخوالي معهما في الصيف بالذات عندما كان والده يصطحبه إلى بركة السباحة، لم تصل الرسالة حينها فقد كان ضعيفا جدا لم يستطع من إنهائها وفي نهاية المطاف وجداها بين أوراقه حينما تسلماها بعد رحيله من عشيقته دورا ديامانت التي كانت الوحيدة من اعتنت به في مرضه حتى النهاية.
عن / N P R