رغم كثرة الدراسات التي تناولت سيرة النبي محمد الذاتية وفق كتب السير النبوية، الا ان دراسة السيرة من خلال النص القرأني لا زالت نادرة، والحال ان الايات القرآنية استوعب تنزلها شطرا طويلا من حياة النبي وكانت تحكي الوقائع والظروف على اختلاف المراحل التي عاشها النبي مما تسلط الضوء ساطعا على تلك السيرة وفهمها وادراك بعض الغموض الذي يلف بعض من جوانبها. ما كتبه الدكتور محمد عابد الجابري في سفره القيم "فهم القرآن الحكيم" يعتبر خطوة مهمة على طريق فهم السيرة النبوية من خلال آيات القرأن رغم الفجوات التي اعترت تلك الدراسة وسأقف عليها مليا لاهمية موضوعة تأريخية النص القرآني.
تأريخية النص:
تسجل قدم السبق للألماني تيودور نولدكه (1836-1930م) في دخوله للقرأن الكريم من بوابته التاريخية، من خلال اطروحته للدكتوراه التي اصدرها عام 1860 بعنوان " تاريخ القران" وكانت عبارة عن رسالة صغيرة لا تتعدى ال200 صفحة، لكنها تطورت فيما بعد وبمشاركة بعض من تلامذته حتى اوصلوها الى ثلاثة اجزاء تحت عناوين:
اصل القران، و جمع القران، وتاريخ نص القران.
اعتمد نولدكه على معايير موضوعية لترتيب سور القرأن بحسب النزول وفق تطور الخطاب القرأني منذ بدء الوحي الى حين انقطاعه، وفي مراحله المختلفة التي قطعها بين مكة والمدينة، والخصوصيات التي رافقته في جميع مراحله، حيث اخضع في الجزء الاول من الكتاب الآيات والسور القرآنية لتمحيص لغوي دقيق لاستخراج ترتيب زمني للسور، اما اللوائح المنقولة عن الرواة في ترتيب نزول السور فلم تؤخذ بالحسبان لشدة الاختلاف فيها بشكل لا يكاد يركن اليه (1).
وكانت محاولة نولدكه هذه الركيزة التي اعتمد عليها فريدرش شفالي في اعادة صياغته للجزء الاول عام 1909، وذلك بطلب من نولدكه الذي تقدم به السن من القيام بهذه المهمة، فأكتفى بكتابة مقدمة للجزء الاول، لكن وفاة شفالي عام 1919 حالت دون ان يرى صدور الجزء الثاني الذي يتناول جمع القرآن بعد ان اعدَه للطبع، فأضاف اليه اوغست فيشر بعض التصحيحات واصدره بعد وفاته.
اما الجزء الثالث الذي كانت مهمة انجازه قد انتقلت الى غوتهلف برغشتر فأكمله تلميذه أتو بريتسل مطلع العام 1937بسبب وفاة استاذه قبل ذلك بأربع سنوات.
اذن ثلاثة اجيال من علماء الدراسات القرآنية الالمان تعاقبت على هذا الاثر حتى ابصر النور، وهو يضم ما توصلوا اليه من نتائج في هذا المجال خلال سبعة عقود ونيف . (2) وسار على ذات النهج ريجس بلاشير (1900-1973 م )عبر ترجمته القرآن إلى الفرنسية في ثلاثة اجزاء: الاول بعنوان المدخل الى القرأن عام 1947، والثاني والثالث بعنوان ترجمة معاني القرأن عامي 1949 و1950.
لكن محاولة بلاشيرهذه جاءت كسابقتها مبتنية على اساس التمييز بين خصائص القرآن المكي ومميزات القرآن المدني، وكيف كان النبي (ص) مرشدا روحيا في مكة ثم صار قائد لجماعة المهاجرين والانصار في المدينة. الا ان هذه المحاولة اثارت جدلا كبيرا من حيث المنهجية واصل الترجمة الفرنسية للايات على الرغم من انه كان يترجم بعض الآيات أكثر من مرة إذا كانت محتملة لاكثر من معنى(3).
تلك المحاولات وان لم تحضى بالقبول المطلق من قبل المفكرين العرب والمسلمين الا انها فتحت امامهم افقا وسيعا لدراسة تاريخية النص القراني كمحاولة محمد عزة دروزة في كتابه التفسير الحديث والذي صدرت طبعته الاولى في القاهرة عام 1962 واعتمد فيه ترتيب النزول كما هو منصوص عليه في بعض التفاسير، وكذلك كتابه تدوين القرآن المجيد والذي كتبه بعد اتمامه التفسير، وهو اشبه بالمقدمة للتفسير من حيث بحوثه وطريقة شرحه للمنهج كما ذكر ذلك في المقدمة (4).
والملاحظ بوضوح ان هذه الطريقة من التفكير قد استهوت المفكر محمد اركون في ما عبَر عنه بالضرورة الملحَة لارخنة الخطاب القراني في جملة ما كتبه في قراءات في القران ونقد العقل الاسلامي، وكذلك الدكتور عبد الكريم سروش في كتابه التجربة النبوية، واخرون.
لكن اين نجد الدكتور محمد عابد الجابري بين تلك المحاولات فيما كتبه في "فهم القران الحكيم" وفي المدخل الذي سبقه؟
منهج الجابري في فهم النص يدور حول محور العلاقة بين النبي (ص) والوحي، ومحاولة فهم النص القرأني من خلال السيرة وفهم السيرة من خلال النص القرأني، حيث فسر القران بحسب ترتيب النزول لا بحسب الترتيب المعهود بين الدفتين، رغم انه يجد بذور هذا التفكير عند الامام الشاطبي المتوفي عام 790 وهو من علماء غرناطة في كتابه "الموافقات" حيث يقول: "المدني من السور ينبغي ان يكون منزلا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه من بعض والمدني بعضه من بعض على حسب ترتيبه في التنزيل والا لم يصح" (5) وهو صريح في ان فهم القرآن متوقف على فهم المدني والمكي وبحسب النزول، وهو المنهج الذي اختطه الجابري في محاولته هذه التي جاءت بأربعة اقسام مدخل وقسمان للمكي ورابع للمدني.
وهناك اسئلة هامة تثار على مثل هذه الدراسات التي تعتمد على اسباب النزول وهي غاية في التعقيد لانها غير محسومة اصلا، وبالتالي هي بحاجة الى الاجتهاد الواعي للاطمئنان الى ترتيب النزول في خضم التاؤيل اللامتناهي للايات، وهذا الطريق لا يعرف وعورته الا سالكيه.
والاسئلة الذي ارمي الوصول الى اجابة محددة عنها من خلال هذه الدراسة هي:
هل نجح الجابري في بناء تصور منطقي عن المسار التكويني للنص القرآني من خلال السيرة النبوية؟ وهل جاء بجديد مباين لسابقيه ممن اعتمد على التسلسل التاريخي للتنزيل؟
مع ملاحظة انه نفى اي جديد فيما كتبه المستشرقون ومن تبعهم بأحسان حول خصائص القرأن المكي والمدني وانما هي امور معروفة، وقد فصل القول فيها كثير من المؤلفين المسلمين قديما وحديثا، كما ان كتب السيرة لا تخلو من الاشارة الى الاحداث والاجتهادات ما يتطابق مع ما ذكروه من التحقيب او ترتيب السور داخل التحقيب، هكذا ذكر في المدخل: (6) والاهم من كل ذلك هل انتقل الجابري من نقد العقل العربي الى نقد العقل الاسلامي؟ الاجابة عن حقيقة تلك الانتقالة تأتي في خاتمة تقييم المنهج.
ابتدأ المنهج من "المدخل الى القرأن الكريم "واختتم ب "فهم القران الحكيم "بأقسامه الثلاثة، والمدخل جاء كتعريف بالقرآن للعالم العربي والغربي بعد احداث 11 سبتمبر وما تلا ذلك من احداث جسام وردود فعل غاب فيها العقل غيابه في الفعل - على حد توصيفه- وما رافق ذلك كله من هزات خطيرة في الفكر العربي والاسلامي والاوروبي، كل ذلك عمَق الرغبة لديه ليعرَف القران تعريفا ينأى به عن التوظيف الايديولوجي والاستغلال الدعوي، كما نص على ذلك في مقدمته للمدخل (7) .
واجاب في قسمه الاول عن اسئلة قديمة جديدة بحسب اهتماماتنا الراهنة لا بحسب فهم قدامى المفسرين والتي افردوا لها بحوثا منفصلة عن التفسير يجمعها عنوان علوم القران، حيث اجاب المفكر الراحل عن اشكالية جدوى تكرار تلك البحوث:
بأن تلك الاجوبة تنتمي الى الموروث القديم، وان ما طرح من قبل القدماء يدخل بالنسبة الينا ضمن ما يقع خارج زماننا واهتماماتنا، ومن هنا تصبح المشكلة مشكلتنا نحن كذلك:
كيف نبني لانفسنا فهما للقران.
ومن الواضح ان الاسئلة الاتية او جلها تشكل حوادث تاريخية واقعة، فهي موضوعات لعلم التاريخ ولا تتم الاجابة عليها الا من خلال البحث التاريخي وتتبع المسار التكويني للنص القراني منذ اللحظة الاولى لظهور الوحي الى لحظة انقطاعه، والاسئلة هي:
1.كيف كانت تتم عملية نقل القران الكريم من حالة الوحي وبوساطة النبي (ص) الى قلوب الذين كان يقرأه عليهم، اي عملية الانتقال من المطلق الى النسبي، وهذه العملية تسري مع بقية الاسئلة الاتية ؟
2.بما ان فترة التنزيل اخذت اكثر من عشرين سنة، فكيف كانت ترتب الاجزاء التي تنزل في مناسبة ما بالنسبة الى التي نزلت قبلها، اي فهم علاقة السبب والمسبب للتنزيل؟
3.كيف ومتى بدات كتابة القران؟
4.كيف تم الانتقال بما نزل منه في مكة الى المدينة عند الهجرة اليها ؟
5.متى بدأ جمعه ككل، وكيف تم ترتيبه في المصحف؟
6.ما يقال عن الزيادة والنقصان والتحريف الذي طرأ عليه؟
ويجد القارئ تحقيقا تأريخيا وروائيا في القسم الاول من المدخل كأجابات عن الاسئلة المتقدمة، كما بحث مسار الكون والتكوين للقران في القسم الثاني، ثم اختتم المدخل بتحليل القصص القراني وتتبعها بأعتماد ترتيب النزول ايضا وليس ترتيب المصحف، ابرز فيه وظيفة القصص كوسيلة للدعوة في مواجهة الخصوم، وكذلك التساوق بين السيرة النبوية وتطور مسار الكون والتكوين للقران كما يصطلح عليه المفكر الراحل، وهذا الفهم (كما يقول رحمه الله) لم يكن متيسر له لو انه سلك طريق القدماء والمحدثين في التعامل مع القصص القراني كاحداث تاريخية مرجعها ومألها الى "الاسرائيليات" بدل التعامل معه كاحداث قرانية لها اسباب نزول خاصة بها وبالتالي اهداف ومقاصد خاصة.
وفي خاتمة مقدمته للمدخل يؤكد الدكتور الجابري على امر هام يجعل من توجهه الى دراسة القران والتي كانت بعيدة عن اهتماماته تصب في ذاك المشروع الذي ابتدأه في "نحن والتراث"، وتستعيد المنهج والرؤية ذاتها المتبناة في دراسته للتراث ونقد العقل العربي والتي لخصها في جملة واحدة:"جعل المقروء معاصرا لنفسه ومعاصرا لنا في الوقت ذاته" وهي قاعدة شاملة لما اثاره من استفهامات في محاولة لفهم النص القرأني وهي:
هل يمكن فصل الدعوة المحمدية عن السياسة والتاريخ؟
هل يمكن الفصل في القرأن بين الدين والدنيا ثم هل يمكن اصلاح حاضرنا من دون اصلاح فهمنا لماضينا؟
يعتقد المفكر الراحل انه بعد انجاز مشروع نقد العقل العربي بأجزاءه الاربعة يجد نفسه قادرا على التعامل مع مفاتيح باب فهم النص القرأني، فهل وفق لمبتغاه؟
القصص القرآني:
في البدء سأعرض القصص القراني بحسب التصور الذي رسمه الدكتور عابد الجابري في منهجه لفهم النص، اذ يراها بمثابة مرأة تتجلى فيها الدعوة ذاتها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها عبرالتاريخ المقدس للانبياء والرسل، فهي نافذة واسعة يمكن الاطلالة من خلالها على جانب مهم من مسيرة الدعوة عبر نقل تجارب الانبياء مع اقوامهم، وفي الوقت ذاته هو خطاب جدلي وازلي موجه الى الخصوم للاستفادة من تجارب الامم السابقة، ثم ان حالة التساوق- التي يؤكد عليها الجابري- بين مسارالدعوة ومسارالكون والتكوين للقران تتجلى باوضح صورها من خلال تتبع تطور القصص القراني حسب ترتيب النزول.
وفي هذا التصور ابداع متوازن بين استخلاص النتيجة ضمن اطار القران ذاته وبين اجتناب الخوض في جدلية القصص والحقائق التاريخية، ذلك ان معظم المفسرين وعلى الخصوص القدامى منهم كالطبري والبغوي وابن كثير وعند دراسة القصص يستندون في مروياتهم على ما يصطلح عليه بالاسرئيليات لملئ الفراغات في النصوص، ولا يجدوا مناصا من ذلك في تسليط الضوء على تفاصيل تلكم القصص من خلال مرويات كعب الاحبار ووهب بن منبه وامثال هؤلاء من اصحاب الخلفية اليهودية ممن فسروا القصص القراني بشواهد من التراث التوراتي الانجيلي المشوب بموروثهم القديم والذي لايخلوا من الاساطير، فحاول المفكر الراحل الاقتصار على المادة التي يعطيها القران وحده بالابتعاد عن تلك الشوائب، لان الهدف من السرد هو حكاية سيرة حياة هذا النبي او ذاك لاستخلاص العبرة التي تخدم حاضر الدعوة ومستقبلها، وهذا يغني عن الخوض في تفاصيل تلك القصص، ومحاولة فك اسلوب الايجاز المتبع في القران بالاطناب في ذكر الاخبار اليهودية حول القصص كما هو ديدن قدماء المفسرين.
وهنالك نقطة هامة اكد عليها الدكتور الجابري جديرة بالتأمل: وهي ان القصص القراني تجري مجرى الامثال حيث يعرض القران قصص الانبياء بما يناسب مراحل الدعوة لبيان العبرة او الاستشهاد وقد لا تكون القصة ملحوظة بذاتها، وكما ان المثل لا يقصد بذاته وانما للبيان والعبرة او للاستشهاد على صحة قضية ما فكذلك القص القراني لم يقصد فيه اصل القصة وانما المقصود العبرة من ورائها، والصدق هنا لا يتعلق بالمطابقة وعدمها للواقع الخارجي بل الصدق مرجعه مخيال المستمع ومعهوده، وعليه فالغرض من المثل والقصص القراني غرض واحد (8). وبناء على هذا الفهم تتذلل كثير من الصعاب التي تعتري التاريخ المقدس لانبياء بني اسرائيل وبقية الحكايات الوارد ذكرها في القصص القراني، والتي تثير علامات استفهام كبيرة حول التداخل النصي بين القران وبقية الكتب المقدسة، من انها حقائق تاريخية ام اساطير صنعتها مخيلات الشعوب ولا اثرلها يذكر في سجل تنقيبات علماء الاثار وتحقيقات المؤرخين، وهي معادلة معقدة تجمع بين طرفيها نقيضين يصعب اثباتهما من دون الدخول في المحاذير، فأثبات القصص على انها حقائق تاريخية نطق بها الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لازمه النوم ملئ الجفون عن نتائج بحوث الاثاريين والمؤرخين، او التسليم للواقع الثابت تاريخيا مع التماس الاسباب لحكايات الوحي. على ان الامر برمته سيجد مساره للحل اذا ثبتت مقولة المفكر الراحل بأتحاد القصص والامثال في الغاية والهدف، وحينئذ لا جدوى من البحث في كون القصص حقائق تاريخية ام لا، لانها ليست مقصودة اصلا، ويبقى المثل يتردد في المناسبات المختلفة من دون الالتفات الى القصة من ورائه طالما الغرض هو بيان العبرة او الاستشهاد.
والخلاصة: ان دراسة الجابري للقصة القرانية تمتاز بميزتين اساسيتين:
- الاولى: كونها تتبع الترتيب التاريخي للنزول، وانها بحثت ضمن الجو العام للقران وحده ومن دون اللجوء الى الموروث الثقافي التوراتي الانجيلي.
- الثانية: ان غرض القصة هو بيان العبرة او الاستشهاد فيكون حالها بذلك حال المثل، فلا يمكن اعتبارها حقائق تاريخية، ولا ينبغي البحث في هذه المفردة لعدم جديتها، والحقيقة القرانية تتمثل في العبرة والدرس الذي يجب استخلاصه منها.
والامر المثير في دراسة القصص اي مسألة العلاقة بين القصص القراني والحقيقة التاريخية تكمن في هذه الميزة بالذات، فالقران ليس كتاب قصص بالمعنى الادبي ولا هو كتاب تاريخ بالمعنى العلمي انما هو كتاب دعوة دينية ، فلا معنى لطرح مسألة الحقيقة التاريخية، نعم هناك وقائع تاريخية تحدثت عنها تلك القصص لكنها تدخل ضمن معهود العرب الثقافي والفكري ...
نقد وتقييم:
هذا الرأي على متانته ومعقوليته هل يمكن تعديته الى كل القصص، او انه صادق على بعض القصص دون غيرها؟ بمعنى ان جدوى البحث في الحقائق التاريخية للقصص من عدمها متوقف على كون القصص بمثابة الامثال او لا، فأذا ثبت ان القصة كالمثل حينئذ لا معنى للبحث في الحقيقة التاريخية للقصة، والسؤال هو: هل ان القصص جميعها بمثابة الامثال او ان بعضها ليس كذلك؟
وفي مجال التقييم لابد من التفرقة بين القصص المأخوذ في موضوعها استخلاص العبر والدروس، وبين قصص التحدي واثبات الذات، فهذه وان كان مصدرها الموروث الثقافي العربي الا انها لا تجري مجرى الامثال، فأطلاق الحكم على كل القصص وانها بمثابة الامثال تعدَ غفلة من الدكتور الجابري، وحينئذ يأتي الكلام بطوله وعرضه في الحقائق التاريخية، ولا مفرَ اذن من السير في ذات الطريق الذي سلكه الاخرون.
والشاهد على ذلك قصة ذي القرنين التي ورد ذكرها ردا على الخطوة التي أقدمت عليها قريش للنيل من الدعوة بعد انتخابهم لثلة من كبار مثقفيهم ليختبروا النبي(ص) بسؤلهم عن رجل طواف بلغ مشارق الارض ومغاربها ما كان نباءه؟ (9) او ان اليهود سألوا عن اسم لوقرانائم، او كورش الوارد في كتبهم فمن هو؟ (10) وسواء ورد السؤال من قريش او من اليهود فان الغرض من السؤال واحد وهو التحدي وطلب الإثبات من الدين الجديد على الإتيان بتفاصيل غير متيسرة لهم ان كان مصدر الإلهام هو الوحي كما يدعى، فأي عبرة او درس يمكن استخلاصه من هذه القصة !!
اذن لا مجال للعبرة في أمثال هذه القصص أصلا، فكيف حينئذ ننزل هذه القصص منزلة الأمثال، وعلى اثرها يقلل من شأن البحث عن العلاقة بين القصص القراني والحقائق التاريخية، على الرغم من الأهمية القصوى لذلك البحث الذي شغل بال المهتمين بالدراسات الدينية والاجتماعية على حد سواء، وكان الاولى بالمفكر الراحل النأي جانبا عن بحث تلك العلاقة الجدلية وعدم الخوض فيها بدل التقليل من شأنها وإثباتها كأحدى مميزات دراسته للقصص.
وأظن ان الإطار العام الذي اختطه لا ينسجم مع بحث الحقيقة التاريخية، وذلك لان الالتزام باستخلاص المعنى من القران وحده والاعتراض على طريقة قدماء المفسرين من اعتمادهم على الإسرائيليات في توضيح القصص سوف يجعله يغض الطرف عن علاقة القصص بالحقائق، وهو بحث سوف يقوده الى طرح اشكالية تداخل النصوص مع التوراة والإنجيل بل الموروث الثقافي على عمومه، وهذا ما يخرجه عن المنهجية التي اريد منها ان تكون ضمن حدود القران وحده،. رغم انه اعتبرها انعكاس للموروث الثقافي والفكري للعرب، وحتى لو قلنا بهذا الانعكاس يصعب ايضا التقيد ببحث الحقيقة التاريخية ضمن حدود القران وحده.
والشاهد على ذلك: انه اضطر لعقد المقارنة بين نص القران ونص التوراة وبيان اوجه الشبه بينها فيما يتطلبه البحث القصصي التاريخي الا انه جعل الهامش مجالا للتحرك في سلسلة البحث ولم يقحمه في المتن لئلا تنخرم منهجيته المرسومة ضمن اطار القران الكريم.
لكن الامر الغريب هو كيف يمكن تصور ان الدكتور الجابري يؤمن بأن القصص القراني بأجمعه كالامثال و يرتب عليه عدم جدية البحث في الحقيقة التاريخية، كما يصعب تصور انه اذا التزم ببعض القصص دون البعض الاخر سيكون مجبرا لبحث الحقيقة التاريخية في ذلك البعض فعمم الامرعلى كل القصص للخلاص من متاهات الحقيقة والتاريخ. وعلى افتراض ان القصص كلها بمنزلة الامثال الا ان ذلك لا يمنع من ان تكون القصة الواحدة تحمل كلا الوجهتين العبرة والتحدي، فكيف يمكن التعامل مع هذا النوع من القصص كما في سورة الكهف ولقاء موسى والخضر عند مجمع البحرين ...؟
وقد تقدمت الاشارة الى كلتا القصتين في مقال سابق بعنوان " التداخل النصي بين الكتب السماوية والاساطير"(11).
وخلاصة تصورات الدكتور الجابري عن القصص المكي في قسمه المخصص للانبياء والرسل؛ ان رحاها تدور حول دعوة الانبياء لاقوامهم، ثم موقف تلك الاقوام الرافض للدعوة، ومن ثم نزول العقاب الالهي على تلك الامم نتيجة جحودهم نبؤات الانبياء، كما حصل مع "قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد وثمود وقوم لوط واصحاب الايكة.. كل كذب الرسل فحق عقاب".
الامر الذي يجعل تلك القصص متحدة السياق مع التنكير والتكذيب الذي تتبعه قريش مع النبي(ص)، والملاحظ في السرد القصصي المكي بعناصره الثلاث الدعوة والتكذيب والعقاب يوحي للقريشيين بان المصير الهلاك اذا استمرالعناد كما حصل للامم السابقة، والنتيجة ان النصر سيكون حليف الدين الجديد كما كان حليفا للانبياء السابقين، وكأن دورة الحياة تتكرر مع كل نبي قادم.
حتى ان السرد القصصي المفصل لكل من داوود وسليمان (عليهم السلام) والملكة بلقيس الوارد ذكرهم في سورة ص والاعراف يحمل ذات المغزى وبسياق واحد مع احداث بدايات الدعوة مع قريش، وفيها ايحاء للنبي (ص) ان يتصرف بتلك الروحية التي اتسم بها الانبياء من قبله فكما ان داوود وسليمان رفضا الاغراءات فعليه ان يفعل ذلك ويرفض المساومات وغراءات قريش، وكذلك الحال بالنسبة الى قصة ايوب وابراهيم.
والنتيجة التي يخرج بها المفكر الراحل من قصص الانبياء هي انها تنتمي الى التاريخ المقدس، وان ما يجري في هذا القصص من حوار بين الانبياء واتباعهم من جهة وخصومهم من جهة اخرى يشابه ذاك الحوار الذي يجري بين اصحاب الجنة والنار في وقت لم تقم فيه القيامة بعد.
وصيغة الماضي في حوار لم يأت زمنه بعد؛ يتبع الاسلوب البلاغي العربي من تنزيل المستقبل منزلة الماضي لاثبات تحققه، وهذا الاسلوب ظاهر في احاديث القيامة واهوال الجحيم ونعيم الجنة (12).
وبالعودة الى مسألة الحقائق التاريخية التي ادار ظهره لها من قبل بحجة المشابهة بين القصص والامثال يعود الدكتور الجابري كرَة اخرى ليؤكد ان لا واقع وراء التاريخ المقدس انما هي حوارات مشابهة لنداءات اهل النار لاهل الجنة ان افيضوا علينا من الماء او... هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فأي حقيقة تاريخية في حوار افتراضي مصبه في الدرس والعبرة والموعظة الحسنة.
وفي النهاية يرتبط التاريخ المقدس للانبياء واقوامهم بواقع الدعوة المعاش لاثبات حتمية المصير الذي سيلاقوه كما ذاقته الامم المكذبة من قبل نتيجة مواقفهم العدائية، اما ما ورد خلال حكاية ذلك مما يخص الدعوة المحَمدية فهي حقائق تاريخية..
فالقصد هو الدرس الذي يستخلص من الحدث وليس موقع الحدث في القصة.
وتلك الحوارات بحاجة الى استقراء تام ودراستها ضمن الجو العام للقصص للبت بتلك النتيجة، اذ لو كان الامر يتعلق بالحوار القصصي بين الرموز المتحاورة لصح تشبيههم بحوار اهل الجنة والنار وتوضيف ذلك الحوار في مصلحة حاضر الدعوة، وحينئذ يكون القصد هو الدرس المستخلص من الحدث وليس موقع الحدث في القصة كما يقرر الجابري، لكن تلك القصص تتحدث عن كيانات قائمة بكل المقومات مما يجعل البحث عن واقع تاريخي لتلك الكيانات امر حيوي لابد من التحقق منه لاثبات مصدر تلك الحكايات، حتى لو كان مصدرها الموروث الثقافي العربي الا انه لا يفي بقصص التحدي واثبات الذات المتقدم ذكرها مما هو بحاجة الى افق اوسع من ذلك المتعارف عليه في الجزيرة كما تقدم في قصة ذي القرنين.
والخلاصة التي نخرج بها من كل ما تقدم:
ان القصص كالامثال وان الحوار الجاري في قصص الانبياء كحوار اهل الجنة والنار كلاهما لا واقع تاريخي من ورائها، وبهذا يتجاوز الدكتور الجابري حواجز البحث التاريخي للقصص بكل ما تحمله من عثرات.
وهي التفاتة على جماليتها غير مقنعة بالنسبة لي، لانها غير مستندة الى استقراء تام للقصص، وهناك من القصص ما لا يتضمن معنى الامثال، وعليه تبقى اهمية بحث الواقع التاريخي للقصص القراني تحضى بالاولوية في سلم الدراسات الدينية لما يترتب عليها من اثار لا يمكن تجاوزها في مجال تقييم دور الدين في حياة الانسان.
بهذا المقدار من العرض والتقييم تنتهي مرحلة القرأن المكي والتي دامت ثلاثة عشر عاما من التنزيل كان طرفا الخطاب فيها النبي (ص) والمشركين، والتي شغلت قسمين من الكتاب الاول والثاني بالاضافة الى المدخل، وبعدها سيأتي عرض مرحلة القرأن المدني والتي دامت عشر سنوات مزدحمة الاحداث والنتاقضات اطراف الخطاب فيها كثر، وشغلت القسم الثالث والاخير من الكتاب.
مرحلة القرآن المدني:
فبعد ما كان القرآن المكي مقتصرا في خطابه على النبي والمشركين توسع في المدينة ليشمل الخطاب جهات متعددة، فبالاضافة الى خطاب النبي(ص) والمشركين، هناك خطاب لليهود والمسيحيين، وخطاب الفئة الجديدة المسماة بالمنافقين، وخطاب داع الى السلم، واخر محرض على القتال، وثالث ذام للقاعدين والمتخلفين من المسلمين المتخاذلين، والى اخره...
هذا الزحام في الخطاب نتيجة ازدحام الاحداث المتتالية وعلى مدى عشر سنين هوعمرالقرآن المدني يجعل مهمة مسايرة التنزيل شاقة عسرة، يضاف اليها تمدد في طول السور والابقاء عليها مفتوحة لاستقبال الايات في آن واحد، وبتوجيه من النبي (ص) لكتَاب الوحي ترتَب الايات بحسب مواقعها في السور، كل ذلك يزيد من تعقيد المهمَة، اذ لم يكن الحال كما كان في مكة حيث قصار السور وتبتدء الاخرى من حيث ما انتهت سابقتها، هذا الامر جعل الدكتور الجابري يمهد بمقدمة مطولة قبل الدخول في تفسير السور المدنية، حيث اعتمد فيها السرد التاريخي للاحداث في المدينة منذ هجرة النبي (ص) اليها؛ وذلك لبيان المسار العام للسيرة واحداثها في مرحلة المدينة والذي سيتطابق معه التنزيل بصورة وصفها بأنها شبه تامة، اذ لا توجد مطابقة تامة بين مسار السيرة والتنزيل في القرآن المدني لكثرة الثغرات التي تعتري الاخبار والروايات الواردة عن تلك المرحلة حول فهم القرآن بعد رحيل النبي(ص) والى هذا اليوم، والاسباب غير خفية على احد.
وهذا الامر وجد طريقه الى التضخيم في الروايات وفتح المجال لقضايا لا زالت تثير جدلا على مستوى الدراسات القرانية كمسألة النسخ والمحكم والمتشابه وغيرها، وسيأتي الحديث عنها من خلال عرض وجهة نظرالمفكر الراحل والتعليق عليها.
المقدمة التمهيدية تناولت مجموعة نقاط تتسلسل بتسلسل الاحداث في المدينة ابتداءا من البرنامج الذي خطط له النبي(ص) لحالة الجماعة المؤمنة الجديدة من تأمين العيش مع الانصار من خلال المؤاخاة، وتقنين التعايش السلمي المشترك ضمن عقد اجتماعي مع بقية الاطراف والمعروف بمعاهدة المدينة والتي تضمنت ايضا نظاما داخليا لتحديد العلاقات، مع تحديد وظيفة النبي(ص) كمرجعية توافقية في مواقع الخلاف. ومرورا بالانتقال الى استراتيجية الهجوم وضرب مصالح قريش التجارية ومعركة بدر،الى الصراع مع اليهود ،و انتهاءا بظروف نزول سورة التوبة.
بالاضافة الى نقاط كثيرة بحثها الجابري وفقا لمرويات السيرة والتأريخ قبيل تتبع مسيرها من خلال النص القراني، والتي لم اجد فيها شيئا جديدا سوى الحلول الوسطية المنتخبة من بين نقل الرواة، فسأعرض عنها صفحا وأقف قليلا على المواضيع المهمة التي بحثها تحت عنوان الاستطراد الوارد ضمن سياق تفسيره للايات، وفقا للطريقة التي اعتمدها من التقديم للسورة بذكر ما اورده المفسرون والرواة من اسباب النزول، ثم ذكر النص القرآني مع تفسير مختصر بالاضافة الى التصنيف للسور الطوال على شكل عناوين رئيسية وربما تتفرع الى عناوين فرعية، ومن ثم التعليق، وغالبا ما تكون التعليقات بصورة اختصار للعناوين المقترحة في النص في محاولة لرسم تصور اجمالي عما يدور في السورة من مواضيع مطروحة، وهذا بدوره يترتب على شكل نقاط متسلسلة فيما اذا كانت السورة من الطوال وبحاجة الى برمجة موضوعاتها.
قول الشيخ الطوسي في كتابه المبسوط 4/311 (تحقيق البهبودي): "وان خالعها بعد هذا بعوض وبذلته له، ملك العوض الذي عقد الخلع به، وزال ملكه عن بضعها في الوقت الذي ملك العوض عليها، ولا يقال زال بضعها اليها فملكته لانها لا تملك بضعها، فأن البضع عبارة عن الاستمتاع، لكنا نقول زال ملك البضع عنه وعاد اليها كالذي كان قبل النكاح". لاحظ التعبير " زال ملكه عن بضعها "، "زال ملك البضع عنه وعاد اليها كالذي كان قبل النكاح" فهنالك ملك للبضع من قبل الرجل زال هذا الملك بمجرد ان ارجعت اليه المال. الا يفهم من هذا ان طرف العقد وهو الزوجة يتعامل معها وكأنها سلعة تباع وتشترى؟
ثم اين هذا الفهم من النصوص القرآنية التي يعلوها التقديس للحياة الزوجية؟. والمصيبة انك تجد اصرارعلى هذا المعنى من قبل المفسرين والفقهاء المعاصرين لتبرير تعريف القدماء هذا، وكانه نص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حتى وصل الامر بالعلامة السيد الطباطبائي في الميزان على علو منزلته وكأنه يدافع عن ملكية البضع، ويعتبر الامر مناسب للطبيعة فيساوي بيننا وبين الحيوانات، من استيلاء الذكور على الاناث فيقول رحمه الله:
"ثم ان التأمل في سفاد (اي جماع) الحيوانات يعطي ان الذكور منها شائبة استيلاء على الاناث في هذا الباب، فأنَا نرى ان الذكر منها كأنه يرى نفسه مالكا للبضع مسلطا على الانثى، ولذلك ما ترى ان الفحولة منها تتنازع وتتشاجر على الاناث من غير عكس، فلا تثور الانثى على مثلها اذا مال اليها الذكر بخلاف العكس". هل يستحق الجمود على تعريفات الفقهاء ان نفكر بهذه الطريقة، بدلا من تهذيبها او استبدالها بما هو افضل ما دامت صياغتها من صنع بشر امثالنا.
وخير ما صنع المهتمون بشأن التصنيف الفقهي حديثا بتجاوزهم عن اصطلاحات القدماء في باب الزواج واستبدالها بصياغات اكثر ملائمة مع ما هو مدون في دساتير البلدان الاسلامية.
والخطأ ناشي من المنهجية المتبعة عند الفقهاء في تقسيم ابواب الفقه الى عبادات ومعاملات والتي تشتمل بدورها على المعاوضات من عقود وايقاعات، حيث ذكر الفقهاء في مدوناتهم الفقهية جملة من احكام الاحوال الشخصية كالزواج والطلاق والخلع في باب العقود والايقاعات لاعتبارات فقهية صرفة تتعلق بالطريقة الاجرائية لكل من الزواج والطلاق، ومن الواضح ان طريقة اجراء الزواج تختلف عن الطلاق في اشراك كلا الزوجين في امضاء الزواج، بينما الطلاق فيتحقق بامضاء الزوج فقط. وبناء على هذا التصنيف ادخل الزواج في جملة العقود واما الطلاق فصار في عداد الايقاعات؛ على اعتبار ان الزواج عقد مبرم بين طرفين ويحتاج انشاءه الى الايجاب والقبول، اما الطلاق فهو ايقاع من طرف الزوج ولا يحتاج الى الى القبول من طرف الزوجة، بل يحصل بمجرد الانشاء من طرف الزوج. ولا يخفى ان هذه الطريقة من التصنيف اثرت في سير الابحاث الفقهية، وجعلت الفقهاء يكثرون من تفريعاتهم في الزواج على اعتباره عقد كبقية العقود كالبيع والاجارة، وكذلك الطلاق كأيقاع يقع ضمن بقية الايقاعات كالخلع والاقرار والنذر وما الى ذلك، وبنوا احكامهم على ضوء القوالب الفقهية التي تحكم العقود، وكانت النتيجة قراءات خاطئة للنصوص القرآنية.
ومن تلك الفروع على الاصل المتبنى عندهم في الزواج وهو "المعاوضة على البضع":
- * مسألة حرمة امتناع الزوجة من تمكين زوجها منها متى ما شاء الا لعذر شرعي كالحيض مثلا ؛ لانه تصرف في ملكه ومن حقه ان يتصرف فيه كيفما شاء.
- * " قضية الخلع " بان ترجع اليه ماله وصداقه في مقابل فك ملكيته عن فرجها.
وهناك سيل من التفريعات مبثوثة في كتب الفقه قد تسئ الى طرفي العلاقة من الرجل والمرأة كلها مبتنية على مبدأ المعاوضة على البضع، وقد يصبح من المعيب جدا وجود تلك الاحكام وبهذه الصياغات كقوانين تنظم الحالة الشخصية للانسان المسلم والتي من المفترض ان يفرد لها بابا يتصف بالاحوال الشخصية يأتي متناسقا مع الاحكام الشرعية المنظمة للحالات الشخصية من زواج وطلاق وميراث ....
الخاتمة :
زواج شرقي بنكهة غربية
في الفقه الاسلامي القديم منه والحديث طرحت قضية اجتماعية جدلية، اخذت ابعادا مذهبية اثَرت في سير البحث الموضوعي وعلى النتائج المستخلصة من ذلك ،كونها حكما معالجا لحالة وقد انتهى العمل به بعد صدور تشريعات الاحوال الشخصية المنظمة للميراث، او انها حالة يصح العمل بها متى ما اقتضت الظروف لذلك ، تلك هي قضية زواج المتعة، او النسخة المتطورة عنه المسماة ب "زواج الفريند"، فهل هما مسميان لعنوان واحد يتخفى احدهما بالاخر خوفا من شبهة المذهبية ؟ ام هو عنوان مستحدث منسجم مع الضوابط الشرعية ؟
زواج المتعة او الفريند:
{ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } والاستمتاع مقابل الاجر الى مدَة معينة هو زواج المتعة اوالمعروف بأصطلاح الفقهاء بالزواج المنقطع في مقابل الزواج الدائم المتعارف عليه عند الامم كافة، وهذا بأتفاق الرواة والمفسرين والفقهاء، وهناك من روى العمل بها في صدر الاسلام اثناء الغزو، ثم نهي عنها عام خيبر، ثم اذن فيها عام الفتح، ثم حرمت الى يوم القيامة.. نقل ذلك عن ابن العربي واصفا المتعة بأنها من غرائب الشريعة، وقال غيره ممن جمع طرق الاحاديث فيها: انها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات. يقول الجابري: "اما ما ذكروه من كون هذه الاية نسخت ثم عاد العمل بها ثم نسخت سبع مرات او اقل او اكثر فدليل على ان مفهوم النسخ لا معنى له ولا اصل ! فكيف يعقل ان تنسخ آية حكم آية اخرى ثم يعود العمل بالاولى نسخا للنسخ الاول، وهكذا دواليك.."( 17)
ثم ان التشدد في امر زواج المتعة ونعته بأقبح الالفاظ واتهام القائلين به بأنهم اولاد سفاح، الدوافع من وراءه مذهبية محضة، ولا تصب في قوالب علمية موضوعية، لان تشريعه ثابت بنص قرآني والخلاف في وقوع الناسخ لهذا التشريع ان كان هناك نسخ اصلا، وهذا النوع من الزواج يباح العمل به اذا توفرت الظروف لاباحته وينتفي بانتفائها فلا ناسخ ولا منسوخ في البين..
يقول الدكتور الجابري: "اما ما نراه نحن ويستفاد من اقوالهم جميعا فهو ان زواج المتعة كان بسبب ظروف خاصة كلما انتفت تلك الظروف تم العدول عنه، واذا تجددت كانت العودة اليه "(18 ).
وبناء على هذا - يقول الجابري – فنحن نؤيد موقف الرازي حين سئل عدة مرات عن زواج المتعة فكان جوابه مرة الاباحة، وسئل: اسفاح ام نكاح؟ قال لا سفاح و لانكاح هي متعة.. وقد استنكر اناس هذه الاجابات حتى ان بعضهم قال فيه شعرا يهجوه.. فكان رد فعله ان قال: قاتلهم الله اني ما افتيت باباحتها على الاطلاق لكني قلت " انها تحل للمضطر .."(19 )
والاضطرار لا يعني الرجوع الى البديل في حال انعدام المورد، وانما يصدق حتى في حالة عدم التمكن منه مع وجوده ايضا، وهذه من المسلمات الفقهية ولها امثلة كثيرة لا مجال لذكرها الان، وعليه فالشباب الملتزمين دينيا بامكانهم الارتباط عاطفيا بمن يحبون بعقد مؤقت يضمن الحقوق لكلا الطرفين؛ ان لم يتمكنوا من الزواج لارتفاع التكاليف مثلا او لاي سبب اخر يجعلهم غير متمكنين من تحمل اعباء القفص الذهبي.
هذا الزواج يشبه الى حد كبير الحالة الاجتماعية الرائجة جدا والمقننة في الغرب والمعروفة ب " كيلفريند بويفريند" حيث يرتبط الاصدقاء بعلاقة حميمية وينجبوا من خلالها الاطفال ايضا من دون ان تربطهم علاقة زوجية ، نعم هي عندنا ذات خصوصية تشريعية تصح في حال الاضطرار اليها فقط عندما لم يجد الرجل اوالمرأة الظروف الممكنة للزواج فيرتبطون بعقد مؤقت ينتهي بنهاية الفترة المحددة من دون الحاجة الى الطلاق، ومن حقهم الانجاب من خلال هذا العقد لكن من دون ان يرث احدهما الاخر، لان الارث من خصوصيات العلاقة الدائمية لا المؤقتة.
وتتأكد الحاجة اليها عند المسلمين ممن يعيشوا في المجتمعات الغربية، حيث تعتبرعلاقة الصداقة الحميمية هذه جزء من عادات تلك الشعوب مما يؤثر بشكل او بأخر على سلوك النسل الجديد الناشئ على العادات والقيم الغربية وفي نفس الوقت يراد منه الحفاظ على خلفيته الثقافية والدينية. ومن هنا نشأت فكرة "زواج الفريند" التي اقترحها الشيخ عبد المجيد الزنداني رئيس جامعة الإيمان بصنعاء، ورئيس مجلس شورى حزب الإصلاح اليمني المعارض، وتناولها المتخصصون وغيرهم بالحديث عبر وسائل الاعلام كما في برنامج "للنساء فقط " الذي بثته قناة الجزيرة القطرية، او من خلال الدراسات المستوعبة كدرسالة الدكتورعبد الملك المطلق المسماة "زواج الفريند بين حكمه الشرعي وواقعه المعاصر"، واجيزهذا المقترح من قبل المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الاسلامي في دورته الثامنة عشرة المنعقدة بمكة برئاسة مفتي عام السعودية، وجاءت الفكرة متناغمة مع علاقة الكيلفريند في امكانية الارتباط بعلاقة حميمية من دون السكنى والنفقة والمبيت لان الزواج لا يتقوم بهذه الثلاثة، نعم هي حق الزوجة وبامكانها اسقاطه متى شاءت، وبناء على ذلك اقحم هذا الزواج ضمن القوالب الفقهية لينسجم مع الادلة الشرعية المصححة لمثل هذه العلاقة من توافر الاركان والشروط وانتفاء الموانع ولو اختلفت اسماؤها وعناوينها.
لكن الملاحظ على تلك الادلة انها تدخل ضمن القواعد الفقهية التي تبيح للمضطر ما لا تبيحه للمختار، وعنوان الاضطرار الذي يقول به الشيخ الزنداني هو ذاته الذي يصحح العمل بزواج المتعة، واية المتعة المتصدرة للمقال هي دليل العمل بها، فلا داعي لابداع عنوان جديد وبادلة جديدة، وكان الاولى بالزنداني وغيره ان يعلنونها صريحة ومن دون الالتفاف على الاحكام بعناوين مختلفة ان كان المؤدى في كليهما واحد. وسواء اسميناه بزواج الفريند او المتعة فالنتيجة واحدة.
وبهذا المقدار نسدل الستارعلى العرض والتقييم لمنهج الدكتور محمد عابد الجابري في فهم النص القرآني، واعتقد انه اضاف شيئا جديدا للمكتبة العربية خرج به عن الخطاب التبجيلي الديني دون التحليق بعيدا في فضاء النقد الديني.
المصادر:
(1) تيودور نولدكه، تأريخ القرآن، ط 1 بيروت 2004، ترجمة د. جورج تامر
(2)مقدمة الترجمة العربية بقلم د.جورج تامر.
راجع المصدر السابق
(3)على سبيل المثال: لاحظ "دراسة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية" للشيخ فودي سوريبا كمارا، نشرت في موقع مركز المدينة لدراسات وبحوث الاستشراق.
(4)ص5 ، محمد دروزة، تدوين القرآن المجيد، ط1 ، 2004 ، نشر دار الشعاع.
(5)ص 256 ، ج4 ، الشاطبي، الموافقات، ط دار ابن القيم، 2003 ، تحقيق: ابو عبيدة ابن حسن ال سلمان.
(6) ص 243 ، الجابري، مدخل الى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية.
(7)ص 14 المدخل.
(8)ص 257 المدخل
ص 183، محمد بن اسحاق، المبدأ والمبعث والمغاوي (سيرة ابن اسحاق) بتحقيق محمد حميد الله ، ط المغرب 1976.
(10) كتاب عزرا ، الاصحاح 1، كتاب دانيال، الإصحاح 6 ، كتاب أشعيا، الإصحاح 44 و 45 .
(11) نشر ضمن سلسلة مقالات تحت عنوان قضايا جدلية في صحيفة بانوراما الاسبوعية الصادرة في سدني/ استراليا
(12) ص 258 المدخل.
(13) ص 100 ج3 ، محمد عابد الجابري، فهم القرآن الحكيم، ط1 المغرب 2009 .
(14) الحديث 10، الباب السادس: باب فضيلة علم الناسخ والمنسوخ ، ابن الجوزي، نواسخ القرآن.
(15) ص 95 ج 3 فهم القرآن الحكيم.
(16) البقرة : 106
(17) ص 257 ج3 فهم القرآن الحكيم.
(18) المصدر السابق.
(19) المصدر السابق .