رسالـة الاحـلام
مشاهد وقوع الواقعة وما حدث للارض والجبال ثم انقسام الناس الى فئتين اصحاب المشأمة واصحاب الميمنة حيث يطوف عليهم الولدان المخلدون بأكواب واباريق وكأس من معين، تلك المشاهد تبرز تساؤل عن كيفية حصولها واين حصلت؟ يمكن القول بان حصولها كان من سنخ الرؤيا او المكاشفة او الخيال، ولا يتورع الكاتب من اطلاق صفة الرؤيا عن تلك المشاهدات، لاسباب اهمها: الحذر من الابهام الذي قد يشوش ذهن القاري جراء الاستفادة من المصطلحات القديمة والفلسفية والميتافيزيقية احيانا. وكذلك لانها مرتبطة بتجرية نبوية اكثر وضوحا، اذ لا يوجد انسان لم ير مناما يعكس حالات معينة في حياته حلوها ومرها، فكيف بالنبي او العارف والصوفي حيث تحصل لهم في مناماتهم حالات من المكاشفة والعيش في عالم المثل. وكثيرا ما تجد في كتب العرفاء والمتصوفة عبارة "الكشف المحمدي التام" للإشارة الى حصول الاشراق والمعرفة فوق الحسية. بالإضافة الى الحديث المروي في البخاري برقم 6989 والذي يوصف الاحلام الصادقة او الصالحة بأنها جزء من ستة واربعين جزء من النبوة، وفي الرقم 46 ذكر هناك كلام طويل عريض بينهم لا فائدة مرجوة من الدخول فيه سوى انهم ذكروا ان الله اوحى الى نبيه في المنام ستة اشهر، ثم اوحى اليه بعد ذلك في اليقضة بقية مدة حياته، ونسبتها من الوحي في المنام جزء من ستة واربعين جزءا، لانه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة. وفيما يرتبط بقصة الاسراء والمعراج وبالمراجعة الى كتب المفسرين تجد انهم تحدثوا عن معراج النبي بأنه معراج روحي وليس جسدي، وهذا يعني انه معراج سماوي ومشاهدات غير حسية في عالم الرؤيا، ومن هؤلاء المفسرين محمد حسين الطباطبائي في كتابه الميزان. والمأثور التاريخي يحدثنا عن حالة من النوم العميق والتعرق الشديد المصاحب لنزول الوحي الامر الذي جعل بعض معاصريه يتهمه بالجنون او الصرع..
كل تلك الشواهد وغيرها جعلت الدكتور سروش يطلق على الوحي بأنه من سنخ الاحلام النبوية.
رسالة الاحلام:
بعد تلك المقدمات التي اوردها سروش كنماذج للوحي وشواهد على ان النبي كان ناقلا لمشاهد رأها في عالم الرؤيا، يفتح نافذة جديدة لفهم الوحي من خلال ما ورد في القران، فيقول ان القاري للقران يتناسى انه يواجه " رسالة احلام " او "كتاب احلام" وان اللغة المستعملة في تصوير المشاهد هي ليست لغة اليقظة وانما هي في الحقيقة لغة احلام، نعم هي لغة بشرية عذبة لكنها في الوقت ذاته هي لغة احلام. ومن هنا يدعي سروش ان هناك مغالطة كبرى حصلت للمفسرين للقران حيث جعلوا لغة القران معادلة للغة اليقظة وهي ليست كذلك، ومن الاخطاء المهلكة التي وقع بها المفسرون هي الخلط بين الحقيقة والمجاز واستنتاج الوجوب من الحال "بايد" از "است". وهذا الاستنتاج مرتبط بمعادلة منطقية يعتبرها الدكتور سروش مقدمة غير منتجة وكان قد بحثها بشكل تفصيلي في كتابه "دانش وارزش" ومن غير المناسب الدخول في هذا المبحث لان فيه خروج عن الموضوع. وبناء على ما تقدم فلفظة النار والشمس والغضب والرحمة والماء والميزان وما الى ذلك مما ورد في القران اصطلاحات معروفة لدينا لكن هذه الاصطلاحات شوهدت في عالم الرؤيا والخيال فكانت لغة ورمزا لأشياء بعيدة كل البعد وغريبة عن لغة اليقظة. وحينئذ نقرا اذا الشمس كورت ونفسرها بذات الشمس الموجودة في السماء ونقول يأتي يوما وهو يوم القيامة يحصل للشمس كسوفا وكذا يحصل لذات النجوم وللجبال والبحار.. ومن المفترض ان تفسر كل تلك الاجرام وما يحدث لها في عالم الرؤيا بما ترمز اليه في اليقضة، تماما كما حصل للشمس والقمر التي رأها يوسف في منامه حيث فسرسجودهما اليه بلقاءه بابويه واخوته، وكذلك الاحلام التي كانت تروى ليوسف وتفسيرها بالواقع برموز واشارات لتلك التي حدثت في عالم الرؤيا كسبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات، حيث فسرت بسنين القحط التي اجتاحت مصر وكيفية التخطيط للخروج من ازمة القحط هذه بأقل الخسائر. هكذا يصور الدكتور سروش القرأن ويصفه بانه "كتاب الاحلام" واللغة التي تصور مشاهده لغة احلام ومن غير المنطقي تفسير لغة الاحلام بلغة اليقضة اذ لا سنخية بين اللغتين وانما هي رموز واشارات الى الواقع. هذه النقطة بالذات اجد من الضروري الوقوف عليها مليا لانها بحاجة الى استقصاء تلك المشاهدات وكيفية تفسيرها بالطريقة الرمزية المتوقفة على اختلاف اللغين، ولعل المقارنة بين رمزية احلام يوسف ورمزية احلام محمد قد لا تكون من سنخية واحدة وقد تصدق هناك ولا تصدق هنا، ولعلها تصدق في موارد ولا تصدق في موارد اخرى. ومن المحتمل جدا ان تكون لغة التهويل والترهيب هو الدافع لتصوير مشاهد الرعب في القيامة حتى وان خالفت المرتكزات العقلية، وهذا الاحتمال قد يبعد حالة الرمزية في تفسير الوقائع بين لغة الخيال ولغة اليقضة، ولو كان كسوف الشمس في القيامة حالة رمزية اذن ماهو المشار اليه في الواقع والى ماذا يرمز، وما الى ذلك من الاحتمالات..
ثم ينتقل الدكتور سروش الى الحالة الرمزية ويشير الى انها اكثر ثراءا في القصص والامثال، وقصص القران ليست ببعيدة عن تلك الرمزية، كما في قصة الخلق المذكورة في التوراة والقرأن المتمثلة بالثلاثي ابطال القصة ادم وحواء والشيطان المشابهة برمزيتها بقصة الملك والجارية المذكورة في مثنوي جلال الدين الرومي والتي ترمز الى العقل والشهوة، والمشابهة ايضا للألفاظ التي جاء على ذكرها الشاعر حافظ الشيرازي مي وجنك ورباب والحاجب والزلف اذ كل ذلك انها كنايات واستعارات لحقائق مختلفة، فالحاجب كما قيل هو كناية عن صفات الحق، وكذلك الحال في معاني الالفاظ مثل الميزان والقلم فهي غير منحصرة بالمصاديق المتبادرة الى اذهاننا للوهلة الاولى، والحالة نفسها تنطبق على بعض الاخلاقيات والمناسك كالذبح في مراسم الحج فهي تعبيرات مجازية وكنايات واستعارات..
نعم قد لا تشبه لغة الاحلام لكنها بالتأكيد ليست هي ذاتها الموجودة في الواقع.
للحديث تتمة.