وقفـة مع صدر المتألهيـن
من جملة الادلة التي يتكئ عليها سروش في اثبات مدعاه من ان لغة القرأن تنتمي الى عالم الرؤيا هي تلك النصوص التي تتحدث عن عالم الغيب والشهادة، عن عالم اللامحسوس والمحسوس، نصوص تصف الملائكة والقيامة والجن والعرش والميزان.. واخرى تأمر وتنهى وتشرع احكاما وقضاءا وعقوبات.. هذا يجعل القارئ للقرأن امام نوعين من القراءة، قراءة يشوبها الخيال والرؤيا واخرى تعلوها الواقعية واليقضة، وكأن العين التي قد غشيها النوم وهي ترى مخلوقات كأن رؤوسها طلع الشياطين قد استيقضت لتشرع احكاما وقوانين.
يقول سروش برغم هذين النحوين من القراءة نحو ينتمي الى عالم الاحلام والاخر الى عالم اليقضة لكن يمكننا القول ان للقرأن لغة واحدة هي لغة الاحلام، وذلك لان الفضاء الذي تتحرك به لغة الوحي هو فضاء خيالي ومنبع الوحي هو التصورات والانكشافات. من هنا يفهم الخطأ الذي وقع به المفسرون حيث ابتدأوا قراءتهم للنصوص من علم الشهادة وغرَتهم الاحكام والتشريعات وانتهوا بعالم الغيب فوقعوا في ورطة حل طلاسم ذاك العالم المجهول، بل حتى عالم التشريعات والاحكام هذا يعلوه لون الغيب بدرجة اندماج لغة الغيب بلغة التشريعات. هذا يقودنا الى التصور الذهني عن الله والناتج عن اندكاك عالم الغيب بعالم الحضور، اتصال الخالق بالخلق وتصور الاله بشكله المادي البشري، فيتصور الذهن ان الله جالس على العرش كالملك المقتدر المهيمن حيث يدور حوله ملائكة غلاظ هناك في السماء السابعة وبيده الرمونت كنترول وعن بعد يرسل اوامره لعباده يحركهم ذات اليمين وذات الشمال، ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، يدعوهم الى السلم تارة والى الحرب تارة اخرى بل يقاتل معهم ويمدهم بألف من الملائكة مردفين.. اندكاك الخالق بمخلوقاته وحضوره فيهم اهم شئ ممكن تصوره في الانكشاف الروحي الحاصل للنبي حيث انعكس على جملة من النصوص فكان يرى ويسمع المخلوقات تسبح بحمده، وما من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم..، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.. وتنسب كل الافعال اليه وحده فهو يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، ويريهم البرق خوفا وطمعا، وينزل من السماء ماء طهورا، وهو معكم اينما كانتم، وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى، افارايتم ما تحرثون اانتم تزرعونه ام نحن الزارعون.
هذا الموضوع استهوى الفلاسفة المسلمين فأفردوا له بابا في ابحاثهم اسموه التوحيد الافعالي ثم تطور اكثر فأكثر حتى وصل الى الحلول او وحدة الوجود، وساقوا اليه عشرات البراهين الفلسفية لاثباته ودعموه بمئات التجارب القدسية والعرفانية، ولعل الحكمة المتعالية لصدر الدين الشيرازي المعروف بصدر المتألهين في رسالة خلق الاعمال خير كتاب يمكن الرجوع اليه لمعرفة دقائق الامور، وكيف آلَت الامور الى هذا المستوى من التعقيد الفلسفي الذي لا طائل تحته سوى رموز ومصطلحات قد اخطئت طريقها واضلَت سالكيها.. هناك في الفصل الرابع يقول صدر المتألهين "هيهات ان الحالَية والمحلَية مما يقتضيان الاثنينية.. فظهر ان لا ثاني في الوجود وان ليس في الدار غيره ديَار". فانتهت الحال بالمتألهين ان يتصوروا ان الوجود لله فقط ولا وجود لغيره. والتوحيد الافعالي هذا يعتبر من اكثر المباحث الفلسفية والكلامية اثارة للسخرية والاستهزاء بالعقل والارادة، لانه قائم على سلسلة مقدمات خاطئة مستفادة من النصوص اوصلت مفسريها الى نتائج كارثية على الفكر الفلسفي والتصوف الاسلامي، وكان لابد من التأمل في قراءة النصوص غير الواقعية والتي تنتمي الى عالم الخيال وحلَها هناك في عالمها الخيالي، ومن الخطأ الفادح حمل تلكم النصوص على الواقعية والقول بان الافعال مستندة الى الله وحده. من تلك النصوص النص القائل "وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى "الانفال 17 او "افأرايتم ما تحرثون* أأنتم تزرعونه ام نحن الزارعون " الواقعة 64 . يمكننا ادراك نسبة الرعد والمطر والزلازل الى الله باعتبارها مجهولة الاسباب زمن نزول تلك النصوص، اما نسبة رمية الرمح الى الله وتغافل دور الرامي وكذلك دور الفلاح في حراثة ارضه ونسبتهما الى الله فهذا امر يصعب ادراكه!! بالطبع هناك توضيح ساذج لما قد يقال من اللوازم المحذورة على هكذا تصور كالغاء قانون العلية وتخلف العلة عن معلولها.. بأن الفاعل الحقيقي هو الاله وتدَخل المخلوقات في انشاء الفعل هو بالواسطة وبالعرض، او ان الفعل ينسب اليهما معا فهو فعل الانسان وفي الوقت ذاته هو فعل الله.. لكن الفلاسفة والعرفانيين قد ذهبوا بعيدا في نسبة الافعال الى الله فقالوا بالحلول وبوحدة الوجود وما الى ذلك.. حتى ادعى صدر المتألهين ان الفلاسفة متحدون في القول بأن وجود المخلوقات او ما يسميه بالممكنات بالنسبة الى وجود الله وجود رابطي، وعبارته في كتابه الاسفار 1/329 تنص على " الممكنات طرا مادياتها في عالم الشهادة مفارقاتها في عالم الغيب، موجودات لا لذواتها بل لغيرها الذي هو فوق الجميع و وراء الجملة وهو الواجب تعالى".
ولندع نتاجات الفلاسفة جانبا والرجوع الى موضوعة الرمزية في احلام الانبياء، وهو عنوان المقال القادم.