مع محي الديـن ابن عربي
في معركة بدر المصيرية حدثت اشياء خارقة كشفت عن يد من وراء الحجب تدير وتدبر الاحداث..
اخراج قريش في البقعة المعينة، وتقليلهم في اعين المسلمين ثم ارسال الملائكة لقتالهم.. اذ تكاد ترى يد الله وهي ترسم مشهد المعركة وتهيئ الاسباب الخفية لايقاع القريشيين في الفخ ثم النكال بهم، فهي توقف طرفي النزاع في اماكنهم الخاصة بهم {اذ انتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب اسفل منكم}. فالمسلمون حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة، ونزل جيش قريش يقودهم ابو جهل بالضفة الاخرى البعيدة من المدينة وبين الفريقين ربوة تفصلهما، اما الركب والقافلة فقد مال بها ابو سفيان نحو ساحل البحر اسفل الجيشين.
وبعد الاتقان في تنظيم خراج الجيشين وبالطريقة التي تهيء سبل النصر حدث تدبير الهي اخر وهو الامر المهم الذي يرتبط بموضوع المقال تمثل في رؤيا النبي من تقليل كل فريق في عين الفريق الاخر وفي اغراء كل منهما بالاخر {اذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو اراكهم كثيرا لفشلتهم ولتنازعتم في الامر ولكن الله سلم}. فقص النبي رؤياه على المسلمين، فأتخذها المسلمون كأمر واقع وصدقوا الرؤيا، فنزلوا الى ساحة القتال للقاء العدو فكانت الرؤيا طبق الواقع {واذ يريكموهم اذ التقيتم في اعينكم قليلا ويقللكم في اعينهم ليقضي الله امرا كان مفعولا}.
روى المفسرون رواية شاهد عيان كان قد حضر معركة بدر وهو عبد الله بن مسعود فقال: لقد قللو في اعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل الى جانبي: تراهم سبعين؟
قال بل هم مائة، حتى اخذنا رجلا منهم فسألناه قال كنا الفا..
الوحي هنا كما هو نص الاية عبارة عن رؤيا نقلت الى المسلمين بعنوانها الاصلي وهو المنام، ثم تحولت تلك الرؤيا الى واقع تعامل معه المسلمين كذلك فتطابقت لغة النوم مع لغة اليقضة لتحقيق امر كان قد قضي.
هذا الاستشهاد يذكره الدكتور سروش استطرادا لدعم مقولته بان الوحي من سنخ الاحلام، وهو كذلك في هذه الايات. ولعل من فسر المنام في الاية بمحل النوم وهو العين اي في موضع المنام لعله كان ملتفتا لهذه النقطة وهذا شائع في اللغة انهم يحذفون المضاف ويقيمون المضاف اليه مقامه للدلالة عليه، لكن ذكر رؤية اللقاء الثانية تثبت ان الرؤية الاولى ظاهرة في الرؤية المنامية وان الوحي هنا كان حلما تحول الى واقع.
وغير بعيد عن هذه الرؤيا ومطابقتها مع الواقع هناك رؤيا النبي ابراهيم التي كادت ان توقع كارثة لو انها طبقت كواقع ايضا ولقطع ابراهيم رقبة ابنه اسماعيل لو انه عمل بمقتضى رؤياه على ارض الواقع.
من هنا خطَأ محي الدين ابن عربي النبي ابراهيم على فعلته هذه لانه وقع في غفلة اذ خلط بين لغة النوم بلغة اليقضة وفسَر لغة النوم بلغة اليقضة.
امام العرفاء والمتصوفة ابن عربي في الفص الاسحاقي من كتابه فصوص الحِكم يتعرض لقصة رؤيا ابراهيم وهو يذبح ابنه اسماعيل فيقول: "ان ابراهيم الخليل قال لابنه اني ارى في المنام اني اذبحك، والمنام حضرة الخيال فلم يعَبرها. وكان كبش ظهر في صورة ابن ابراهيم في المنام فصدَق ابراهيم الرؤيا.
ففداه ربه.. فالتجلي الصوري في حضرة الخيال محتاج الى علم اخر يدرك به ما اراد الله تعالى بتلك الصورة".
اذن المشكلة التي وقع بها ابراهيم بناء على رأي ابن عربي ان عملية الذبح كانت مجرد رؤيا وكان عليه ان يفسرها على اساس عالم اخر يختلف عن عالم الرؤيا والخيال وهو عالم اليقضة لكنه لم يفعل وكاد ان يقتل ابنه وفلذة كبده، ولولا الكبش الذي هو التعبير الواقعي للرؤيا لوقعت الكارثة.
هذا التحليل الذي خرج به محي الدين بن عربي عن المألوف يأتي بناء على متبنياته في التجلي الصوري والتجلي الواقعي، وفي الواقع تدرك ارادة الله من التجلي الصوري الخيالي.
وهو بالضبط ما يعنيه الدكتور سروش من الاحلام النبوية التي هي وحي ينبغي تفسيره على اساس ما يرمز له في الواقع ولا يصح تفسيره على اساس الواقع اصلا.
وللمفسرين والاصوليين كلام اخر حول رؤيا ابراهيم بناء على اخذهم بظاهر الايات وتطبيقها على الواقع من دون الاخذ بالاعتبار قضية الاحلام واختلافها عن الواقع، اذ يعتقدون ان ابراهيم مأمور بتطبيق الرؤيا كما هي والتسليم المطلق لقضاء الله وقدره وقد صدَق الرؤيا عندما اسلما وتلَه للجبين وناديناه ان يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا.
للحديث تتمة ...