تناقضـات النـص
في ذات النص القراني شواهد على رواية رؤيا ذلك النص، تقدمت الاشارة الى بعضها وستأتي شواهد اخرى ودلالات تتضمن تناقض المتن ذاته او انفكاك موضوعة العلة والزمان، ووقوع حوادث خارج فضاء الطبيعة. تجدر الاشارة الى الاختلاف الكبير بين لغة التشريعات والاحكام في القرأن وبين لغة التبشير والانذار واهوال اليوم الاخر وقصص الامم السالفة، هنا في الاحكام لغة مستقيمة لا يشوبها التشويش واقل نبوية، وهناك لغة اكثر نبوية تعلوها الرؤيا والخيال وكلما اوغلت في الخيال صارت اكثر نبوية!
والسؤال لماذا كل هذا التهافت بين اللغتين؟
ومع التصالح والتغاضي عن تلكم المتضادات السابقة الذكر فما عسانا ان نقول عن مقولة هو الاول والاخر والظاهر والباطن، اربع كلمات جامعة للمتناقضات غير المعقولة يرفضها النطق والمنطق معا ، لكن المفسرين وعلى القاعدة يذهبون مذاهب في التأويل بأنه الاول قبل بدء الخليقة والاخر بعد فناء المخلوقات.. وهناك تجد الصعوبة في هضم مقولة بقاء الارواح وخلودها في الجنان او النيران، الم تكن الارواح مخلوقات فأي بقاء بعد فناء المخلوقات، نعم يمكن تصور الله ولم يكن هناك شئ فهو الاول، ويمكن تصوره بعد نهاية كل شئ فهو الاخر لكن هذا لا ينسجم مع بقية النصوص التي تثبت الخلود للروح في معادها الجسماني.
والاقل هونا من هؤلاء المفسرين هم المفلاسفة والعرفانيين حيث اذعن بعضهم بمقولة الرؤيا والاحلام فيما يخص موضوعة المعاد الجسماني.
في مواضع كثيرة نقرأ عن ارسال الرسل الى اقوامهم مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، واذ اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم ألست بربكم قالوا بلا شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين.. وفي مواضع اخرى نقرا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
اذن ما الداعي لاقامة الحجة واقرارهم عليها في محكمة القيامة اذا هم امام قاض يَسأل ولا يُسأل؟
وفي مواضع هناك دعوة الى التوبة والحذر من اتباع الشيطان يا ايها الذين امنوا توبوا الى الله توبة نصوحا، ويا ايها الذين امنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان..
وفي مواضع اخرى نلاحظ الايمان والتوبة لا يتأتيان للانسان الا بأذن ورحمة منه تعالى وما كان لنفس ان تؤمن الا باذن الله.
اذن ما الداعي للتوبة النصوحة المشروطة بالاذن منه تعالى؟
واقع حال النصوص يحكي عن قرائتين مختلفتين لكل منهما دلائلهما المتينة المستمدة من تلك النصوص لو تهيأ المناخ الفكري الحر لتلك القراءات، كالذي حصل بدايات القرن الثاني الهجري حيث قرأ المعتزلي بالاختيار وقرأ الاشعري بالجبر، ولازالت تناقضات النصوص تشعل فتيل الخلاف بين الاتباع والى هذه الساعة... وكل القصة تبتدء وتنتهي بالخيال والرؤيا.. فالتناقضات والمتضادات لوازم حضرة الخيال وعالم المنامات ولغة الاحلام، كل المشاهدات غير الممكنة في عالم اليقظة تجدها ممكنة الوقوع في عالم الخيال، هناك يشاهد المرء ذاته حرة طليقة ويشاهدها مكبلة مخنوقة في آن واحد، يشاهدها في الماء والنار في الوقت ذاته..
وفي سياق المتناقضات يستشهد سروش بكلام لقطبي التفسير الفخر الرازي والسيد الطباطبائي ورأيهما في حلَ تناقضات هذه الاية:
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؛ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ..
وجهتا نظر مختلفتان تستند الاولى الى الاخبار والروايات التي تسند الاعمال حسنها وقبحها الى الله ، والاخرى تستند الى حكم العقل بحسن وقبح الافعال وترى ان السيئات مفهوم عدمي لا يصح نسبة خلقه الى الله بخلاف الامر الوجودي للحسنات التي هي مخلوقة ومنسوبة الى الله، وبالتالي فاراء المفسرين في هذا الباب مختلفة جدا وتدعو الى الحيرة بحسب رأي الطباطبائي في الميزان 5/15 (طبعة جامعة المدرسين قم).
وفوق هذا وذاك ولتأكيد انسيابية النصوص وجريها على نسق واحد بطريقة لا يشوبها التناقض والتهافت هناك دعوة الى التدبر في الايات ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا، نعم لا اختلاف في الايات لو تدبر بها على انها رؤيا واحلام لكن تدبرت على انها لغة يقضة لوجدوا فيها اختلافا كبيرا. وبالمراجعة للنص الذي يرجع الخلق والانشاء الى صيغة "كن" انما قولنا لشئ اذا اردناه ان نقول له كن فيكون، فأرادة الشئ وطلبه يخلق بقوله "كن" هذا الكلام يتضمن تناقضا كبيرا لان كن هذه خلقت بـ كن ثانية وكن الثانية تخلق بكن ثالثة وهكذا الى ما لا نهاية وهو تناقض مستحيل لان لازمه التسلسل الى ما لا نهاية او توقف الشئ على نفسه وهو المعبر عنه بالدور، وكلاهما ثبت بطلانه واستحالته فلسفيا.
في خاتمة هذه الفقرة يبدي سروش اعجابه بطريقة سبك الايات هذه ويقول: حقا انها رسالة احلام رويت بطريقة فنية بديعة، واثر فني بديع، لكن نسبته الى الواقعية كما هو حال المؤمنين به جعلت منه كتابا ينشد الى الحضارة والمدنية، ويرشد الى السعادة، ومعلم للحكمة، وكان هوية للمسلمين وسيبقى كذلك.
للحدبث تتمة ...