المعجـزات وقانـون العليَـة
هل السببية والعلَية لها حاكمية على الطبيعة ام ان الطبيعة قد تجري على سنن مخالفة لقوانين العلة والمعلول؟
اذ لا احاطة تامة للعقل بكل السنن الحاكمة في الطبيعة ومن الممكن ان الاشياء تجري على سنن مجهولة لدينا، فالاحراق قد ينفك ويذهب بعيدا عن معلوله، فتصبح النار بردا وسلاما بدلا من كونها حرا ولهيبا، وقد تجري الامور احيانا من دون مسببات، بل يداه مبسوطتان وقدرة الله مهيمنة على مقدَرات الكون فهو الخالق البارئ المصور.
يقول سروش من الواضح ان السبب والعلة ليست صيغ قرأنية، وكلمة الخلق هي الصيغة المنتخبة لراوي المتن المقدس، والله هو صاحب الاسماء الحسنى الخالق والبارئ والمصور هو الله الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم، اذن هو ليس علة العلل وليس واجب الوجود كما يحلو للمتكلمين والفلاسفة ان يطلقوا عليه تلك الصفات رغم النهي الوارد عن اطلاق تلكم المسميات لتصحيح مسار الاسباب والعلل المفقودة في النص المقدس ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في اسماءه سيجزون ما كانوا يعملون.. الاعراف 180
وقد بذل اصحاب الخطاب التبجيلي من المتكلمين والفلاسفة والمفسرين المسلمين قصارى جهدهم لتاويل الايات وجعلها مطابقة لقوانين العلية وجعلوا حالات انفلات العلة عن معلولها بسبب المعجزات جارية طبق قوانين خاصة لا نعلمها خارجة عن قوانين العلية.
صاحب تفسير الميزان السيد محمد حسين الطباطبائي مثالا اورده سروش على الجهد الكبير المبذول للتوفيق بين العلية والمعجزات في بحث اورده في تفسير الاية 25 من البقرة حول معجزات الانبياء وانها خرق للناموس الطبيعي مع التسليم ان الامور في الكون تجري وفق قوانين العلية، يقول الطباطبائي: "القرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سببا من الاسباب إذا تحقق مع ما يلزمه ويكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتبا عليه بإذن الله سبحانه وإذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة. ثم ان القرآن يقتص ويخبر عن جملة من الحوادث والوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلة والمعلول الموجود، وهذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدة من الانبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد (ص) فإنها امور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة. لكن يجب أن يعلم أن هذه الامور والحوادث وأن انكرتها العادة واستبعدتها الا أنها ليست امورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري.. ولو كانت المعجزات ممتنعه بالذات لم يقبلها عقل عاقل ولم يستدل بها على شئ ولم ينسبها أحد إلى احد.
على أن أصل هذه الامور أعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحى إلى ميت والميت إلى الحى وتحويل صورة إلى صورة وحادثة إلى حادثة ورخاء إلى بلاء وبلاء إلى رخاء، وإنما الفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة هو أن الاسباب المادية المشهودة التي بين أيدينا إنما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانية ومكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير، مثلا العصا وإن أمكن أن تصير حية تسعى والجسد البالى وإن أمكن أن يصير إنسانا حيا لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة وشرائط زمانية ومكانية مخصوصة تنتقل بها المادة من حال إلى حال وتكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر وتحل بها الصورة الاخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة والتجربة لا مع أي شرط إتفق أو من غير علة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصها القرآن".
كلام الطباطبائي هذا لا يخلو من تهافت وتكلَف واضح في التوفيق بين قوانين الطبيعة ومعجزات الانبياء الخارقة والمحكية في النصوص، لكن سروش اورده مثالا على مدى الجهد المبذول من قبل المفسرين لاثبات ان لا منافاة بين قواعد العلية ونصوص القرآن، ومن دون الدخول في الاستدلال على بطلان مقولة الطباطبائي.. لكنه اكتفى بالقول بان الشواهد التي اوردها لا تثبت المطلوب، وما هو واقع على خلاف العادة والطبيعة انما هو في الرؤيا، ولا توجد دلالة اخرى غيرها.
والرؤى والاحلام وحدها تثبت ما ورد عن عرش بلقيس ونقله الى مملكة سليمان باسرع من طرفة عين، ورجوع عزير الى الحياة بعد مائة عام، وامرأة زكريا العجوز العاقر وحملها بيحيى، وبقاء يونس في بطن الحوت حيا، وعشرات القصص الاخرى المبثوثة بين دفتي القرآن.
كان على المفسرين ان لا يتعبوا انفسهم في البحث عن عمر نوح الممتد الى 950 عاما وامكانه من عدمه، وهناك ساقوا عشرات الادلة على امكانه، وكان عليهم ان لا يتعبوا انفسهم في بيان الاسباب والعلل بين طول عمر نوح وبين كثرة الذنوب والابتلاءات وما الى ذلك، وكان عليهم ادراك ان لا زمان ومكان واقعيين في عالم الاحلام، وان طول عمر نوح امر واقع ولا يحتاج الى برهان لكن في ذلك العالم الرحب.
اذن الزمان طال ام قصر لا قيمة حقيقية له في عالم الرؤيا.
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ في سورة المعراج ارجع المفسرون طول يوم القيامة 50,000 سنة الى شدة صعوبات ذلك اليوم على المذنبين، ولسهولتها على الصالحين كانت اقصر زمنا امتد ما بين الظهر والعصر، والعجيب ان الطباطبائي في تفسير معراج الملائكة والروح اليه قد انسلخ عن مذاقه الفلسفي وسار بسيرتهم ومشى بطرقهم فجعل نسبة الخمسين الف سنة الى ايام الدنيا، وعروج الملائكة والروح رجوعهم الى الله عند انفكاك الاسباب عن مسبباتها يوم القيامة، واليك عبارته:
"والمراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنه بحيث لو وقع في الدنيا وانطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا والمراد بعروج الملائكة والروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإن يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط وتقطع الأسباب وارتفاع الروابط بينها وبين مسبباتها والملائكة وسائط موكلة على أمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطعت الأسباب عن مسبباتها وزيل الله بينهم و رجع الكل إلى الله عز اسمه رجعوا إليه وعرجوا معارجهم فحفوا من حول عرش ربه "(تفسير سورة المعارج ايه 4).
هكذا يقول الطباطبائي، ويتسائل سروش:
هل ان رجوع الملائكة والروح الى الله بزوال الاسباب والمسببات يحتاج الى زمان مقداره خمسين الف سنة، وبلا ادنى ترديد.. هنا اخفى صاحب الميزان رأيه وما يعتقد به وخاض مع الخائضين من غوغاء العوام متنازلا عن مبانيه الفلسفية والكلامية ، ومن السهولة بمكان ان يقال ان عالم الاخرة عالم اللازمان واللامكان.
للحديث تتمة ...