ضبابية الزمان في النص المقدس
يثير سروش في هذا المقطع من المقال قضية الزمان في القران ليس على مستوى احداث يوم القيامة او التوقيتات الزمانية كالذي مرَ في عروج الروح والملائكة اليه في يوم مقداره خمسين الف سنة، وانما بشكل عام وعلى مدار نصوص القرآن يلاحظ عدم وضوح معالم الزمان في تلك النصوص، اذ لا وجه ثابت للزمان في القرآن ماضيه ومستقبله.
ويمثَل سروش على ضبابية الزمان في النص المقدس ببدايات سورة البقرة وحوارية الله مع الملائكة في فجر الخليقة وانه جاعل في الارض خليفة واعتراض الملائكة على هذا القرار أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ثم تنتهي الحكاية بسجود الملائكة لآدم.. وهذا قبل خلق بني ادم وحكاية اغواء الشيطان لهم. لكن فصول هذه القصة تأخذ رونقا اخرا في سورة الاعراف، وبمرور الزمان تأتي الايه 11 لتقول: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس لم يكن من الساجدين.
وهنا يقع التهافت بين سجود الملائكة في سورة البقرة لآدم قبل خلق الادميين وبين سجودهم في سورة الاعراف بعد خلق بني آدم وتصويرهم. هذا التهافت وقف عنده المفسرون وكل دلى بدلوه للخلاص من هذا المأزق، لكن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع بسبب اعتقادهم بتاريخية وواقعية قصة الخلق هذه، وواقع الحال ان الزمان في هذه الاسطورة امر تصوري وخيالي ولا مدخلية له في الزمان الواقعي اذ لا سنخية بين زمان الرؤيا وزمان الواقع.
شاهد آخر على عدم وضوح الترتيب الزماني نلاحظه اواخر سورة المائدة في حوارية الله مع اليسوع: واذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي ان اقول ما ليس لي بحق ان كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك انك انت علام الغيوب..
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا.
يشير سروش عابرا الى ان لغة الحوارهذه يحدث فيها تحول في الزمان من الماضي ذهابا الى المستقبل، ولم يفصَل كثيرا في هذا الانقلاب الزماني رغم اهميته، اذ ربما يقال ان الالتفات في الخطاب والتحول في زمان الخطاب امر وارد في لغة العرب ونظائره كثيرة جدا في نصوص القرآن حيث جعل من شواهد الاعجاز البلاغي، لكن الامر هنا مختلف جدا مما انعكس على فهم المفسرين لهذه الحوارية الغريبة والانتقال السريع الى الحديث عن يوم ينفع الصادقين صدقهم. ولم يكتف المفسرون بذكرهم انها جملة مستأنفة لا علاقة لها بما قبلها وينتهي الموضوع على هذه الشاكلة كما فعل بعضهم، لانهم مدركون انها جزء الحوار وسياق متصل بين الحوار ونتيجة الحوار.
شاهد ثالث على غياب الزمان والمكان معا هذه المرة في النص المقدس، ايات العهد والميثاق الالهي، او ما يسمى في المرويات والاحاديث بعالم الذر: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. الاعراف 173..
هذه الايات من عجائب ما ورد في النص القرآني ومن عويص الكلام، اذ ان الاله وفي مكان وزمان مجهولين يطلب من بني ادم وهم لازالوا نطفا في ظهور آبائهم بالقرار والاشهاد بربوبيته عليهم ألست بربكم، وهم في تلك الحالة يقرون ويشهدون بالاثبات بلى شهدنا، والظاهر ان مكان الاقرار والاشهاد هذا هو في الرؤيا، وعالم الذر هذا عالم الارواح لأن صريح الروايات تشهد بحضور بني ادم وسماعهم لنداء الحق بروحهم وتلبيتهم للنداء بلغة القلب. وليس من العجب ان يتحدث المفسرون عن لغة الرمزية والخيال في تفسير هذه الاية، وضروب من الاحتمالات، ثم يتركونها لظلمة التاريخ. يقول جار الله الزمخشري في تفسير الكشاف 2/530 ط1 (مكتبة العبيكان): قوله: ألست بربكم قالوا بلى شهدنا: من باب التمثيل والتخييل! ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم، وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقررهم، وقال لهم: ألست بربكم؟
وكأنهم قالوا: بلى، أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب، ونظيره قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون، فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين".
لكن الطباطبائي في الميزان وعلى نهجه في تسلق سلم الفلسفة هناك في عالم مقدم على عالم الانسانية حيث زمان ومكان وراء المادة تحقق فيه الاقرار والاشهاد الواقعيين لا التخيليين، بعد تفصيل طويل الذيل حول معنى اخذ الرب من بني ادم من ظهورهم وكيفية انفصال بني الانسان عن بعضهم البعض واستقلالهم بعد ان كانوا جزء منهم، ثم يلخص فهمه لاية العهد والميثاق بقوله: "معنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد، وأوفقناهم على احتياجهم و مربوبيتهم لنا فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا، وعلى هذا يكون قولهم: “بلى شهدنا“ من قبيل القول بلسان الحال..". اما الفخر الرازي فيختار طريقا ثالثا وهو وجود الارواح قبل الاجساد لكن من دون الدخول في التفاصيل. يقول الفخر:
"وفي الآية قول ثالث؛ وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان، والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها، وهذا العلم ليس يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب، وهذا البحث إنما ينكشف تمام الانكشاف بأبحاث عقلية غامضة، لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب. والله أعلم".
هذه الحكاية تدخل في جملة الخلط بين الرؤيا واليقضة والاعتقاد بواقعية الزمان والعلية الخياليين، وحتى مع الفرض ان الاولاد يأتون الى الدنيا من ظهور ابائهم باعتبار وجود النطفة في ظهر الرجل، وان بني البشر هم في الواقع اولاد ادم لو سلمت هذه الاسطورة تبقى مقولة ان يؤخذ اقرارهم واشهادهم بربوبية الاله وهم لازالوا نطفا في ظهور ابائهم امر غير معقول ولا يمكن وقوعة..
انها حكاية مستحيلة!!
نعم يمكن رؤيتها وتصديقها في الاحلام؟
حقا لقد اتعب المفسرون انفسهم في بيان قصة العهد والميثاق هذه، ومن السهولة بمكان ان يقال ومن الاخر ان النبي جاء بفكرة مستحيلة التحقق هي رؤياه وانكشافه خالية عن الزمان والمكان، وهذه القصة بهذه الهيئة وكون ادم في عالم الاجنة يسمع صوت الله "ألست" ويجيب "بلى" هذا المقام لم يكن قبل خلق الانسان ولا بعد خلقته، ولا في هذا العالم ولا في عالم اخر، انما هي في رؤيا محكمة مليئة بالخيال، وخالية عن لوازم عالم اليقضة ولغته وزمانه. للحديث تتمة.