القبض والبسط في الفقه والاخلاق
تقدمت الاشارة الى ان الاحكام العبادية لا يمكن تحليلها او تبيانها عن طريق العلم والتجربة لانها تنتمي الى عالم الخيال وهو عصي على التحليل العلمي التجريبي، لان مقدماته غير حسية وغير موصلة الى الغايات الحسية.
من هنا لا يمكن قياس تشريع الاحكام الدينية على تقنين القوانين البشرية، فالمقننين لهم غاياتهم التجريبية والاجتماعية والنفسية التي تتطلبها تلك القوانين، ولا غايات في التشريع سوى التعبد وقصد القربى ولو ذكرت الغايات او ما يسمونها بعلل الشرائع فهي من باب التفنن في الاستدلال والا فالغاية هي التعبد بالاحكام الوجوبيه او التحريمية، اما حدود هذه الوجوبات والتحريمات الزمانية والمكانية، و ما هي مديات دائرة اعتبارهما فهذا بحث اخر له موازينه الخاصة، لكن الامر المتيقن للمؤمنين هو العمل على وفق الرؤيا القدسية النبوية ولا حياد عنها. اما وضوء النبي وصلاته والعمل وفق احكام الشريعة وامر الاخرين بالعمل بها يعتبر علامة مهمة دالة على ان هذه الاحكام لا تفسير لها سوى انها حقائق شرعية ... هذا الكلام يقترب كثير من آراء المفسرين للايات الاحكام وجعلها من المحكمات ورمي بقية الايات في زمرة المتشابهات. وبعبارة واضحة : ان رؤيا النبي بالنسبة للاحكام تتلخص في انه رأى مشاهد الجنة والنار واحوال اهل الجنان واهل النار ولا غير، فاهل الشرك والنفاق والفواحش اعمالهم متصفة بالحرمة ومنهي عنها، واهل الطاعة والصوم والانفاق والجهاد و... اعمالهم متصفة بالوجوب ومأمور بها، وتجربة المعراج ومشاهد الرؤيا في هذه الرحلة الملكوتية تتجلى بجمالية على هذا الامر كما سنرى.
الا اصحاب اليمين في جنات النعيم يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين.
والسؤال هنا: وهل تعطى صحيفة اعمال المتقين في الجنان بيدهم اليمين؟! يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين ايديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم.
وهذه الايه ايضا يخبر عن حال المؤمنين والمؤمنات يضي نورهم بين ايديهم وبأيديهم اليمنى!
روى قتادة في قوله يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين ايديهم وبأيمانهم أن نبيّ الله كان يقول: مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مِنَ المَدينَةِ إلى عَدَنَ أبْينَ فَصَنْعاءَ، فَدُونَ ذلكَ، حتى إنَّ مِنَ المُؤْمِنينَ مَنْ لا يُضِيء نُورُهُ إلا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ
وروي عن الضحاك تفسير وَبِأَيْمَانِهِمْ قال يعني: كتبهم. يقول الله فأما من أوتي كتابه بيمينه، وأما نورهم فهداهم.
يقول ابن جرير الطبري في تفسيره: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول الضحاك، وذلك أنه لو عنى بذلك النور الضوء المعروف، لم يخص عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان دون الشمائل، لأن ضياء المؤمنين الذي يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم، وفي خصوص الله جلّ ثناؤه الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم دون الشمائل، ما يدلّ على أنه معنّى به غير الضياء، وإن كانوا لا يخلون من الضياءز. فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: وكلا وعد الله الحسنى، يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم تتطاير.
وعلى طبق نظرية احلام نبوية هذه الايات ونظائرها لا تتحدث عن المستقبل اوان مخبرا ذكر للنبي عواقب الناس واستلامهم صحفهم باليد اليمنى او اليسرى، انما كل القصة هي احوال ومشاهدات وصور رأها النبي في منامه القدسي تبعتها تشريعات صلاة وزكاة... وكذلك الحال في باب آكلي الربا واموال اليتامى في سورتي البقرة والنساء: الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يتخبطه الشيظان من المس ذلك بانهم قالوا انما البيع مثل الربا، ان الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نار وسيصلون سعيرا
لاحظوا الصور والمشاهدات الخيالية لفاعلي الخير والشر راها النبي في رؤياه وشرع عليها احكاما بالوجوب والحرمة، ويظهر ايضا ان النبي يداه مبسوطتان في مجال التشريع كما مر في سؤال السائل عن الحج ونهيه عن كثرة السؤال لانه موجب لتشريع الاحكام، وكذلك الحديث المروي في الصحاح والسنن: لولا ان اشق على امتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة.
الى هنا تنتهي قصة الاخلاق واضمحلالها في مقابل التوسعة في الفقه، فالحج واجب في الشريعة الاسلامية وليس واجبا في جميع الشرائع اما الكذب فهو حرام اينما كان وفي كل الشرائع والملل، ومن هنا يقول النبي "بعثت لأتمم مكارم الاخلاق" بما يعنى ان اصل رسالته متقومة بتوسعة الاخلاق لا الفقه ومذاق المشرع على قبض الفقه وبسط الاخلاق .