حديث الاســراء
فيما تقدم من الكلام كان بيانا مفصلا عن لغة التصوير والرؤَى في القرآن، وثبت هناك ان القرآن رواية ٌ لرؤَى النبي، ناظرا ومخبرا لمشاهداته لنا.. قائلا ومستمعا تارة مخاطبا لنفسه ولغيره اخرى.
يبتعد عن نفسه تارة ويقبل عليها تارة اخرى، مرهف بليغ فصيح الخطاب تارة وتعب ملل ضجر تارة اخرى، في القمة تارة وفي الهبوط تارة اخرى، يحصل له الكشف العرفاني فيتنبأ تارة ويخطي علميا تارة اخرى.. وفي كل هذه الاحوال وفي ذات الوقت مؤيد بروح قدسية ومقيَد بقيود بشرية.
رؤياه بُينت بلغة عرفية الا انها بحاجة الى من هم للرؤيا يعبرون، صحيح ان التعبير وتفسير الاحلام يشابه الى حد ما التأويل الا انه ليس تأويلا، وهؤلاء المؤولون والمتمسكون بظواهر الكلام وبطريقة لا ارادية اقتربوا كثيرا من المعبرَين ومفسري الاحلام، ومن هنا يمكن قراءة القرآن على انه كلام الله الا ان عنوان "رسالة احلام محمد" اكثر ملائمة واكثر صدقا عليه، ورغم ان صيغة المنام ظاهرة في تلك الخطابات يمكن وصفها ايضا بمكاشفات محمد.
هو المحور، ورؤياه وتجاربه وتقاريره جعلت من شخصه النقطة الشاخصة والخصبة للنبوة وقطب دائرة الاديان، به ينتهي الوحي، وبه تصل حدود الطاقة والمعرفة والتحليق بالخيال الى الاعالي، مرآة خياله يتسع ليرى الرب كسلطان جالس على عرشه، وعرش الرب على الماء، يحمله ملائكة ثمان، وسعته بسعة السموات والارض، يطوفون حوله ملائكة بأجنحة اثنان وثلاث ورباع..
مرآة خياله تصور فجر طلوع التاريخ بسجود الملائكة لآدم، وغواية ابليس له ليخرجه من الجنة فيهبط الى الارض، وتقع الخصومة بين اثنين من اولاده فتسفك فيها الدماء ليسجل التأريخ بدايته الحمراء بقتال الاخوة، ويسجل نهايته السوداء بظلمة الشمس واحتراق البحار ثم وقوف ابناء ادم صفا صفا، بعدها تعرج الملائكة وتحلق خمسين الف سنة لتصل الى الرب.
من بين التجارب القدسية والرؤى الروحانية للنبي (ص) تظهر تجربتان بارزتان:
خروجه من الارض وسفره الى ما وراء الطبيعة وعروجه الى السماء وسياحته في عالم الملكوت وعالم المثال، الذي يشكل عتبة لدخول ارض الملكوت والاقليم الثامن وجابلقا وجابلسا وهورقليا كما يسميها شيخ الاشراق شهاب الدين السهروردي، هناك عند مجالسة ارواح الفائزين بالنعيم المقيم والملائكة..
والخروج الى ما وراء التأريخ ومشاهداته لعاقبة بني ادم يوم القيامة وعذابات ولذائذ الفائزين والخاسرين.
تحدث القرآن عن تلكم التجربتين بأختصار عن الاولى وبتفصيل عن الثانية، وبالتبع تكلم المتكلمون والمفسرون عن تلك التجربتين المعراج والمعاد واكثروا في الكلام والتأويل، لكنهم اختلفوا في كون الرحلتين حصلتا بجسم طار في الافاق، او بروح عرجت الى الملكوت.
حديث المتكلمين والمفسرين ممن لا يمتلك الذائقة الفلسفية يدور حول فهمهم العرفي من لغة القرآن والحديث، فالنبي صعد على مركب الطبيعة وتجوَل بين عالمي المعراج والمعاد الماديين، وهذا ما اثبتته النصوص من الكتاب والسنة ولابد من الاذعان بها، وعدَوا ذلك ممن المسلمات والضرورات لان الاجماع قائم عليه، ومن يعتقد غير ذلك فهو خارج دائرة المسلمين.
اية الاسراء من سورة الاسراء تقول: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
اما تفاصيل تلك الرحلة الليلية نجدها في الكثير من الروايات والاحاديث المنقولة في كتب الصحاح والسنن، نقل بعض منها جلال الدين السيوطي في الدر المنثور :
روى البخاري ومسلم عن أنس قال: ليلة أسري برسول الله من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟
فقال أوسطهم: هو خيرهم،
فقال أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى، فيما يرى قلبه، وتنام عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوا إيمانا وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا.
فضرب بابا من أبوابها فقيل: من هذا؟
قال: جبريل.
قيل: ومن معك؟
قال: محمد.
قيل: وقد بعث إليه؟
قال: نعم.
قالوا: مرحبا به وأهلا.
ووجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل:
هذا أبوك آدم فسلم عليه.
فسلم عليه ورد عليه آدم وقال: مرحبا وأهلا بابني، نعم الابن أنت.
فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال:
ما هذان النهران يا جبريل؟.
قال: هذا النيل والفرات عنصرهما.
ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر .
قال ما هذا يا جبريل؟
قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك
وفي رواية انس التي اخرجها النسائي هكذا:
ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ويحيى، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فإذا فيها يوسف، ثم صعد بي إلى السماء الرابعة، فإذا فيها هارون، ثم صعد بي إلى السماء الخامسة، فإذا فيها إدريس، ثم صعد بي إلى السماء السادسة، فإذا فيها موسى ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فإذا فيها إبراهيم.
ثم صعد بي فوق سبع سماوات، وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة فخررت ساجدا،
فقيل لي: إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك.
فمررت على إبراهيم فلم يسألني شيئا، ثم مررت على موسى فقال لي: كم فرض عليك وعلى أمتك؟
قلت: خمسين صلاة.
قال: إنك لن تستطيع أن تقوم بها أنت ولا أمتك، فاسأل ربك التخفيف.
فرجعت فأتيت سدرة المنتهى فخررت ساجدا فقلت: يا رب، فرضت علي وعلى أمتي خمسين صلاة، فلن أستطيع أن أقوم بها أنا ولا أمتي.
فخفف عني عشرا، فمررت على موسى فسألني فقلت: خفف عني عشرا، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فخفف عني عشرا ثم عشرا، حتى قال: هن خمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك.
فعلمت أنها من الله صرى، فمررت على موسى فقال لي: كم فرض عليك؟
فقلت: خمس صلوات.
فقال: فرض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما،
فقلت: إنها من الله.
فلم أرجع.
قال: فاهبط باسم الله.
واستيقظ وهو في المسجد الحرام.
في السفر من مكة الى بيت المقدس ينقل السيوطي في الدر المنثور رواية عن انس، تقول الرواية ان النبي مرَ بعجوز على جانب الطريق فقال: ما هذه يا جبريل؟
قال : سر يا محمد.
فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد.
فقال له جبريل: سر يا محمد.
فسار ما شاء الله أن يسير، فلقيه خلق من خلق الله فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر.
فقال له جبريل: اردد السلام.
فرد السلام، ثم لقيه الثانية فقال له مثل ذلك، ثم الثالثة كذلك حتى انتهى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الماء والخمر واللبن، فتناول رسول الله اللبن.
فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغوت أمتك.
ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء، فأمهم رسول الله تلك الليلة، ثم قال له جبريل: أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه، فذاك عدو الله إبليس.
ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بقوم على مائدة عليها لحم مشوي كأحسن ما رأيت من اللحم، وإذا حوله جيف، فجعلوا يقبلون على الجيف يأكلون منها ويدعون اللحم،
فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء الزناة، عمدوا إلى ما حرم الله عليهم وتركوا ما أحل الله لهم.
ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر، يقول: اللهم لا تقم الساعة.
وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة فتطؤهم، فسمعتهم يضجون إلى الله،
قلت: من هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.
ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل، قد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار، ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟
قال: هؤلاء من أمتك إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا.
ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن، فسمعتهن يضججن إلى الله،
قلت: يا جبريل، من هؤلاء النساء؟
قال: هؤلاء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن.
ومثل هذه الروايات والاساطير تعج بها كتب الحديث السنية والشيعية على حد سواء، لكن هنالك كلام للطبرسي في تفسيره مجمع البيان يسكن له الفؤاد في تعليقه على معتقدات القوم بناء على تلك المرويات،
يقول الطبرسي: ما قاله بعضهم إن ذلك كان في النوم، فظاهر البطلان، إذ لا معجز يكون فيه، ولا برهان.
وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، إلى السماء، ورواه كثير من الصحابة مثل ابن عباس وابن مسعود وأنس وجابر بن عبد الله وحذيفة وعائشة وأم هاني وغيرهم عن النبي(ص)، وزاد بعضهم ونقص بعض وتنقسم جملتها إلى أربعة أوجه:
1.ما يقطع على صحته لتواتر الأخبار به، وإحاطة العلم بصحته.
2.ما ورد في ذلك مما تجوزه العقول ولا تأباه الأصول، فنحن نجوزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته دون منامه.
3.ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول، إلا أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول، فالأولى أن نؤوله على ما يطابق الحق والدليل
4.ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله إلا على التعسف البعيد، فالأولى أن لا نقبله.
فأما الأول المقطوع به: فهو أنه أسري به على الجملة.
أما الثاني: فمنه ما روي أنه طاف في السماوات ورأى الأنبياء، والعرش، والسدرة المنتهى، والجنة والنار، ونحو ذلك.
أما الثالث: فنحو ما روي أنه رأى قوما في الجنة يتنعمون فيها، وقوما في النار يعذبون فيها، فيحمل على أنه رأى صفتهم أو أسماءهم.
أما الرابع: فنحو ما روي أنه (ص) كلم الله سبحانه جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه، والله سبحانه يتقدس عن ذلك، وكذلك ما روي أنه شق بطنه وغسله، لأنه (ص) كان طاهرا مطهرا من كل سوء وعيب، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء .
للحديث تتمة ...