المعراج في ميزان الفلاسفة
المقصود بالفلاسفة هم المفسرون ممن ناقش النص الاسرائي كما ورد في القرآن لكن ببعد فلسفي تجاوز الاثار الدينية التي زادت واثرت القصة بمخيلة واسعة جعلت منها اسطورة يصعب فهمها وادراكها بالمنظار العقلي، وعقيدتي ان مخيلة الرواة في اشباع القصة بالمشاهدات كانت نافعة ونافعة جدا لسد رمق المتصوفة والادباء على ما سياتي نقاشه عند حديثي مع فيلسوف الشعراء ابي العلاء المعري. لكن كانت ضارة وضارة جدا في جانبها الديني مما اضطر المفسرون لهذا النص الى اللجوء الى نقاشه بحسب ما يمتلكونه من آليات فلسفية علَها تنفع في جعل القصة مع ما شابها من مخيلات الرواة تتناسب مع التفكير المنطقي، ترى هل نجحوا في ذلك؟
قصة المعراج لا تنتهي عند المفسرين الكلاسيكيين ممن يتبنى التفسير بالمأثور، لان بعض من جوانبها يمكن مناقشتها وحسمها فلسفيا، اذ ليس من المعقول ان تدار دفة البحث في قضية بهذا الحجم بناء على مرويات تشم منها رائحة الاستخفاف بالعقول، من هنا طرحت قصة المعراج على مائدة المتكلمين والفلاسفة وكان لهم الحظ الاوفر في اغنائها واثرائها.
يقول سروش:"لكن بعض من هؤلاء لم يعر ذاك السفر الليلي للنبي الاذن الصاغية نظرا لسرعة انقضاء الرحلة بالقياس بالحجم الهائل من الاحداث التي مرت خلال الرحلة".
يبرز هنا اثنان من المفسرين ممن خاض في الميدان الكلامي والفلسفي ولهم البراعة في مناقشة بعض النصوص القرآنية من جوانبها الفلسفية، الفخر الرازي والسيد محمد حسين الطباطبائي، هذا بحسب الدكتور سروش حيث يتقبل من احدهما ولا يتقبل من الاخر.
يقول سروش: "وهنا يبرز الفخر الرازي بقوة في ميدان البحث الفلسفي حيث يناقش قصة الاسراء والمعراج من وجهة نظر عقلية فلسفية من حيث الامكان العقلي والوقوع الفعلي فيعتقد ان سرعة الرحلة امر ممكن اذا حكمنا بامكانية هبوط جبرئيل من السماء"، واليك مقولة الفخر:
"حكي عن محمد بن جرير الطبري في تفسيره، عن حذيفة أنه قال: ذلك رؤيا، وأنه ما فقد جسد رسول الله، وإنما أسري بروحه وحكي هذا القول أيضا عن عائشة وعن معاوية.
واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين في إثبات الجواز العقلي وفي الوقوع.. فالحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها.
والله تعالى قادر على جميع الممكنات، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع" وبعد ذكر القرائن العلمية الدالة على امكانية سرعة عروج النبي الى السماء في زمن قدره ثلث الليل، يقول الفخر مسترسلا في ذكر المؤيدات: أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم، فإن كان القول بمعراج محمد (ص) في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول، كان القول بنزول جبريل من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوة جميع الأنبياء، والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة، فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد، يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل في اللحظة من العرش إلى مكة، ولما كان ذلك باطلا كان ما ذكروه أيضا باطلا ".
والبحث موجود بتمامه في التفسير الكبير للفخر الرازي عند تفسيره للاية الاولى من سورة الاسراء.
يقول سروش مستشهدا بمقولة الطباطبائي ورأيه في المعراج: "ومن السخاء الفلسفي لاحد الفلاسفة المعاصرين وهو السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير المعراج رأي يتناسب مع القبض والبسط غير المتعارف عليه في العلوم الدينية والفلسفية والعلمية للبشر، فهو بكل اريحية وشجاعة يرى ان المعراج والبراق وانهار العسل واللبن والملائكة بنصف ثلج ونصف نار، وتلك النسوة المعلقات من اثدائهن. كل تلك المشاهد كانت في عالم المثل البرزخي وروح النبي كانت في فضاء من المثل، هكذا يفصل صاحب الميزان كيفية الاسراء في خاتمة تفسيره لسورة الاسراء من الميزان:
"وأما كيفية الإسراء فظاهر الآية والروايات بما يحتف بها من القرائن ظهورا لا يقبل الدفع أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بروحه وجسده جميعا، وأما العروج إلى السماوات فظاهر آيات سورة النجم كما سيأتي إن شاء الله في تفسيرها وصريح الروايات على كثرتها البالغة وقوعه. ولا سبيل إلى إنكاره من أصله غير أنه من الجائز أن يقال بكونه بروحه لكن لا على النحو الذي يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل الأحلام ومن نوع ما يراه النائم من الرؤى، ولو كان كذلك لم يكن لما يدل عليه الآيات بسياقها من إظهار المقدرة والكرامة معنى، ولا لذاك الإنكار الشديد الذي أظهرته قريش عند ما قص (ع) لهم القصة وجه، ولا لما أخبرهم به من حوادث الطريق مفهوم معقول.
بل ذلك - إن كان - بعروجه (ص) بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم المادي مما يسكنه الملائكة المكرمون وينتهي إليه الأعمال ويصدر منه الأقدار ورأى عند ذلك من آيات ربه الكبرى وتمثلت له حقائق الأشياء ونتائج الأعمال وشاهد أرواح الأنبياء العظام وفاوضهم ولقي الملائكة الكرام وسامرهم، ورأى من الآيات الإلهية ما لا يوصف إلا بالأمثال كالعرش والحجب والسرادقات.
والقوم لذهابهم إلى أصالة الوجود المادي وقصر الوجود غير المادي فيه تعالى لما وجدوا الكتاب والسنة يصفان أمورا غير محسوسة بتمثيلها في خواص الأجسام المحسوسة كالملائكة الكرام والعرش والكرسي واللوح والقلم والحجب ولسرادقات حملوا ذلك على كونها أجساما مادية لا يتعلق بها الحس ولا يجري فيها أحكام المادة، وحملوا أيضا ما ورد من التمثيلات في مقامات الصالحين ومعارج القرب وبواطن صور المعاصي ونتائج الأعمال وما يناظر ذلك إلى نوع من التشبيه والاستعارة فوقعوا في ورطة السفسطة بتغليط الحس وإثبات الروابط الجزافية بين الأعمال ونتائجها وغير ذلك من المحاذير.
ولذلك أيضا لما نفى النافون منهم كون عروجه (ص) إلى السماوات بجسمه المادي اضطروا إلى القول بكونه في المنام وهو عندهم خاصة مادية للروح المادي واضطروا لذلك إلى تأويل الآيات والروايات بما لا تلائمه ولا واحدة منها".
يقول سروش: اذا كان الطباطبائي يعتقد بان معراج النبي تحليق للروح الى عالم المثل وليس من قبيل الرؤى او العروج الجسماني فهناك من قبله من يعتقد بالسفر الفكري وهذا المنسوب الى ابن سينا في رسالة كتبها بالفارسية وتشتمل على اثني واربعين خطابا عن النبي في باب المعراج.
وايا كان ذلك السفر الليلي للنبي جسمانيا او روحانيا او فكريا؛ الا انه ليس من سنخ الاحلام والرؤى كما يعتقد الطباطبائي، ويأتي ذلك من ميتافيزقيته، ولو اسدلنا الستارعلى تلك الميتافيزيقية في تصوير المعراج لكانت الصيغة المثلى للتعبير هي الرؤى والاحلام.
للحديث تتمة..