ولنغلق ملف المعراج بشقه الديني الغائم ولنفتحه من جانبه الاخر المشرق والملهم لاصحاب الخيال الواسع من المتصوفة والادباء. قصة المعراج من حيث البنية الفنية مستقاة من النصوص الدينية، الا ان تصوير المشاهدات باسلوب مشَوق ومخيف من قبل الرواة ألًهم الادباء والمتصوفة وأثار بهم الحس المرهف للتحليق بعيدا عما يحيط بهم من اغلال.
شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء كان ملهما في صياغة حواريات الشعراء في الجنة، ومصدر الهامه قصة المعراج القرآنية، الهام جلي في رسالة الغفران تظهر مدى تاثير الرحلة الليلية للنبي على صياغة الحوار بين الاعشى من جهة وبين الجعدين النابغة الجعدي والنابغة الذبياني من جهة اخرى؛ بسبك كاروع ما يكون الابداع الادبي او المسرحي..
نعم اقول المسرحي لان السيناريو المفترض وقوعه في الجنة او النار لشعراء الجاهلية كما يسمونهم قد صاغه ابوالعلاء صياغة مسرحية لم يسبقه اليه سابق، جعلت منه نصا تراجيكوميدي بلغة اليوم.
اللغة الساخرة او الكوميديا في رسالة الغفران هي العنوان الاكبر الذي اختطه جمع غفير من الكتَاب والادباء عند دراستهم وتقييمهم لرسالة الغفران بمن فيهم عميد الادب العربي طه حسين عندما وصفها بأنها مليئة بالسخرية المؤلمة من الجن والملائكة جميعا. ولم يتنبه طه حسين ولو على نحو الاشارة العابرة الى ان حواريات الشعراء في الاخرة ما هي الا محاكات للمعراج النبوي، وسيناريو مسرحي سابق لزمانه، وليست الغاية الفكاهة والسخرية من المفاهيم الدينية رغم انه اعرض عن تلك المفاهيم اشد الاعراض. الملفت ان الحواريات التي تضمنتها رسالة الغفران ربما استهوت طه حسين في كتابه مع ابي العلاء في سجنه، فكانت رائعته الحوارية مع ابي العلاء على ضفاف شواطي نابولي وهو يلومه على تشاؤمه وعزلته: "كنت احدث ابا العلاء بأن تشاؤمه لا مصدر له في حقيقة الامر الا العجز عن ذوق الحياة والقصور عن الشعور بها.. وكان ابو العلاء يقول لي: فانك ترضى عما لا تعرف وتعجب بما لا ترى..
وكنت اقول له: ان لم اعرف كل شئ فقد عرفت بعض الاشياء، وان لم ار الطبيعة فقد احسستها.. وكان ابو العلاء يقول لي: تبيَن ان استطعت حقيقة ما نعرف فسترى معرفتك مشوهة..
كنت اسأل ابا العلاء: ايهما خير ان تلم بنا اسباب النعمة قوية او ضعيفة صحيحة او كاذبة فنتشبث بها ونشد بها ايدينا وانفسنا.. ام ان تعرض لنا فنعرض عنها وتقبل علينا فنمتنع عليها ولا نحصل من الحياة الا ما حصَلت من خيبة الامل وكذب الرجاء.. وكان ابو العلاء يجيبني ببيته المشهور: ولم أُعْرِضْ عن اللّذّاتِ إلاّ لأنّ خِيارَها عَنّي خَنَسنَه ويشتد عليَ هذا الحوار بيني وبين ابي العلاء حتى ابرم به وافرَ منه واطلب الى من حولي ان يدعوني اليهم وان يستنقذوني من هذه الحياة التي كنت احياها في القرن الرابع للهجرة او العاشر للمسيح". لقد اثار اعجابي بعض الدارسين لرسالة الغفران عندما تنبهوا لنقطة بالغة الاهمية وهي تأثير النص المعراجي على حواريات ابي العلاء في رسالة الغفران، على ما سياتي من اقتباس لبعض المشاهد لاستضهار ذلك التأثير على ابي العلاء وبراعته في الوصول الى قمة شاهقة في صناعة الحوار لا تجد نظيرها فيما وصلنا من نوادر الادب العربي.
هذا اذا نظرنا الى رسالة الغفران كنص ادبي محض غير مشوب باعتقادات دينية كما راها بعض وسايرهم عليها طه حسين، الا انه لم ينج من انتقادات المنتقدين رغم تلكم المسايرة، وقد اعلنها طه حسين في مقدمة تجديد ذكرى ابي العلاء من ان البحث في شخصية ابي العلاء يصب في موضوعة تاريخ الادب وليست ترجمان لسيرته الشخصية.
لكن لم نر شيئا منصفا لتلك الحواريات من طه حسين فيما سطره في كتابه "مع ابي العلاء في سجنه" حيث كتبه في اجواء اكثر تحررا من سابقه ، فكان تحليلا لمعتقدات ابي العلاء مستنبطا مما ورثناه من ارث ادبي راق لفيلسوف الشعراء ومقارناته مع بيقور وابي الطيب. "ما اكثر ما تأثر ابو العلاء بما كان يقرأ من الديانات فمالت نفسه الى الايمان بالبعث، وما اكثر ما تأثر ابو العلاء بما يقرأ من كتب بعض الفلاسفة فمال الى التصديق بخلود النفس ، ولكن ما كان اكثر ما يعرض العقل لهذا الميل فيمحوه محوا او يضعفه اضعافا شديدا".
هكذا استخلص طه حسين النتيجة، هو استنتاج في محله بناء على تحليل لشخصية ابي العلاء بناء على نتاجاته الادبية التي تعكس ما كان يؤمن به من افكار تتمحور حول حاكمية العقل اولا واخرا، الا ان ابا العلاء اديب قبل كل شئ، والدين لم يخلق لهؤلاء ليؤطرهم باطر دينية. ونفس الكلام يتأتى على النصوص الادبية التي اتخذت من القصص الديني موضوعا لها ،حيث تعرضت الى نقد قاس اوصلت صاحبها الى الكفر والزندقة اوالارتداد ومن ثم المطالبة بأهدار دمه!! ولنختم الحديث مع ابي العلاء بمنتخبات من سيناريو نجاة الاعشى من النار: "كيف كان خلاصك من النار، وسلامتك من قبيح الشنار؟ فيقول: سحبتني الزبانية الى سقر فرأيت رجلا في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلؤلؤ القمر. والناس يهتفون به من كل أرب: يا محمد يا محمد.، الشفاعة الشفاعة!! نمت بكذا ونت بكذا. فصرخت في أيدي الزبانية: يا محمد أغثني فإن لي بك حرمة! فقال: يا علي، بادره فانظر ما حرمته؟
فجاءني علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وأنا أعتل كي ألقى في الدرك الأسفل من النار، فزجرهم عني وقال: ما حرمتك فقلت أنا القائل:
فاليت لا أرثي له من كلالة
ولا من حفي حتى تلاقي محمدا
نبي يرى ما لا ترون، وذكره
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
يقول الاعشى: قلت لعليَ وقد كنت اؤمن بالله وبالحساب واصدق بالبعث زانا في الجاهلية الجهلاء، فمن ذلك قولي:
ما أيبلي على هيكل بناه وصلب فيه وصارا
يراوح من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا
بأعظم منه تقى في الحساب إذا النسمات نفضن الغبارا
فذهب عليَ الى النبي فقال: يارسول الله هذا اعشى قيس قد روى مدحه فيك وشهد انك نبي مرسل.
فقال: هلا جاءني في الدار السابقة.
فقال عليَ: قد جاء ولكن صدَته قريش وحبه للخمر.
فشفع لي، فادخلت الجنة على ان لا اشرب فيها خمرا، فقرَت عيناي بذلك وان لي منادح في العسل وماء الحيوان، وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة لم يسقها في الاخرة..
يلخص ابو العلاء معراجه ورحلته الى العالم الاخر بكلمات قصار هنَ ام الكتاب:
"وهذا فصل يتسع، وانما عرض في قول نام، كخيال طرق في المنام".
اذن هي رسالة احلام لا تتسع لها الكلمات، وانما هي اشارات ورموز لمعان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.