ذكرت في الحلقة السابقة حدود دائرة المرجع الديني والتي تتشكل من خلالها مهمته في الاساس كمرجع ديني وهي فهم النصوص الشرعية واعمال اجتهاده وابداعه في غير المنصوص منها ضمن مواقع فراغ النصوص؛ وتطبيق كل ذلك على واقع الحياة لايجاد الحلول المناسبة لما يطرء للناس من حالات في سلوكهم الديني.
هذه الدائرة التي يتحرك بها المرجع الديني وبحسب الاليات المتاحة له والتي قد توسع تلك الدائرة او تضيقها ضمن سياقاتها المذهبية.
ولكن من وضع نفسه في موقع المرجعية الدينية وسمَوا انفسهم علماء الدين او رجال الدين توسعوا في تلك الدائرة كثيرا ليشمل قطرها اعنان السماء وتخوم الارض. ولا تستغرب اذا رايت عنوانا طويلا يسبق اسم احد مراجع الدين في قم على غلاف كتبه الفقهي وبالخط العريض "آية الله في الارضين". وفرضوا على الناس او من يسمونهم بالعوام تقليدهم والرجوع اليهم في كل ما يعتقدون من امور الدنيا والدين. وساقوا الادلة من العقل والنقل على هذه الفرية الكبيرة وجعلوها من المسلمات التي لا تقبل الشك.
ساستعرض في هذا المقال ما ذكروه من الادلة العقلية والنقلية على وجوب الرجوع اليهم، وابتدء بالدليل العقلي باعتباره مممن تسالم عليه العقلاء، بخلاف النصوص الشرعية التي قد يعتريها الشك من حيث ثبوت الطريق الى مصادر التشريع او الشك في دلالاتها على مدعياتهم.
عمدة ما ذكروه من الادلة تدخل في باب الرجوع الى اهل الخبرة او رجوع الجاهل الى العالم؛ فالسبب في الرجوع الى المرجع الديني هو الجهل بمسالة عبادية كالصلاة او الحج مثلا او بمسالة معاملاتية كالبيع الربوي او الزواج، وبقية الاحوال الشخصية..
باعتباهم من اهل الخبرة في تلك المسائل او هم العلماء وعلى الجاهلين الرجوع اليهم، وهو السبب نفسه الذي يدعوني للرجوع الى الطبيب وهو الجهل بمرض اعانيه؛ فالرجوع الى الفقيه او الطبيب يكونان من باب واحد وهو رجوع الجاهل الى العالم.
لكن المراجع اعلى الله مقامهم جعلوا انفسهم علماء بالمطلق وباقي الناس جاهلون بالمطلق، وواقع الحال انهم علماء بأمور الدين فقط وباقي الناس جاهلون بتلك الامور فقط، فهناك تقييد للعلم والجهل، وهذا يشكل شرخ كبير في تمسكهم بالقاعدة العقلية.
والقواعد العقلية التي لا يختلف عليها اثنان كليات غير قابلة للتقييد او التخصيص، ومن الواضح ان قاعدة رجوع الجاهل الى العالم تنطبق على علمهم بأمور الدين فقط، ولا يمكن تعديتها الى علمهم المطلق في كل شئ كما هو حالهم اليوم.
ومن خلال مراجعاتي لابحاث بعض مراجع الدين حول هذه القاعدة وجدت من لا يطمئن كثيرا لهذه القاعدة كدليل على مرجعياتهم كالسيد كاظم الحائري على سبيل المثال، ويميل هذا السيد الى مصطلح اكثر قبولا من القاعدة العقلية وهو " الارتكاز " فالناس بحسب ارتكازاتهم الذهنية يرجعون الى العالم، ومن هنا فالذي يعلم ببعض المسائل ليس جاهلا ومع ذلك يصح له الرجوع الى العالم بحسب الارتكاز الذهني.
ولا احبذ الدخول في هذه المهاترات ومناقشتها لانها اشبه بالدائرة المفرغة، والمهم المراد اثباته هوعدم تمامية ما اسموه بالدليل العقلي على ما صنعوه لانفسهم من المقام الشامخ كسلطة عليا للدين وما على الناس الا الخضوع لهذا السلطان.
يضاف الى ذلك ان بعض الخطابات الشرعية ارجعت الحكم الى الشخص نفسه ومن دون الرجوع الى الفقيه وذلك في اثبات رؤوية الهلال وبالتالي وجوب صوم شهر رمضان.
فلكل دائرته التي يتحرك فيها.
اما ان يراد من الناس اتباع المرجعيات خارج تلك الدائرة كالرجوع اليها لانتخاب هذه المجموعة او تلك او اصدار الفتاوى في مسالة سياسية ما.. او ان يتمادي في فرض سلطته الفكرية على الناس فيكفر هذا ويثبت الايمان لذاك.. فهذه امور خارجة عن دائرة سلطة المرجعيات.
الا ان الاتساع في مفهوم السلطة الدينية ليشمل تحديد المصالح والمفاسد في جميع مرافق الحياة ليس بالامر الذي يقف عنده البعض ويصفه بالظاهرة الفريدة والجديرة بالاهتمام فالاجدر من ذلك ان نقف امامها لئلا تتمدد وتذهب بعيدا.. وهذا ما اسعى جاهدا لاثباته من خلال هذه الحلقات..