كشوفات نعوم تشومسكي:
قراءة اقتباسية في كتاب "من يمتلك العالم"
8- هل يمكن أن نتضامن مع من نختلف تماما معهم؟ اقتران الحرية بالمساواة في الفلسفة التنويرية لدى تشومسكي: كتبت كارول روزنبيرغ ( منذ هجمات 11 سبتمبر – أيلول 2001 ، أصبح تراث التنوير موضوع نزاع. استخدمت حقوق الإنسان كثيرا كعذر أيديولوجي لممارسة القوة الاعتباطية. طالب الرجعيون بالدفاع عن "القيم المثلى الغربية" في محاولة لشرعنة إخضاع واستعباد أفغانستان والعراق وإيران وكوريا الشمالية. كان تشومسكي الخصم الأبرز لهؤلاء المتكلين على التنوير حين أعلن بدوره ( أنا ابن التنوير أيضا )! وسَّعَ تشومسكي دفاعه عن التقاليد التحررية للفرد، ونقلها إلى الوضع الحالي فهو يؤيد نسخة من الاشتراكية التحررية ملهَمَة بالتنوير مع التزامها بالمساواة والحرية. في غياب المساواة، تبقى الحرية مجرد وعد لم ينفذ، بسبب القسر الذي يمارسه طرف ضد آخر، بين طرفين غير متساويين. المساواة ذات المعنى يجب أن تشمل مساواة في عمليات صنع القرار كجزء من الحرية.
يشير تشومسكي إلى أن التنوير أثمر أفكارا ترى أن للناس حقوقا طبيعية. وهم متساوون أساسا، وإن أي انتهاك وخرق للحقوق الإنسانية الجوهرية يحدث إذا أخضع نظام الحكم بعض الناس للبعض الآخر. هذا الفهم المعرفي التاريخي للتنوير الراديكالي كان لعنة على الرجعيين عبدة السلطة الذين اغتاظوا من تشومسكي بسبب هدوئه وموقفه المتصلب بعد 11 سبتمبر- أيلول. أما قضية تيمور الشرقية فقد وفرت لتشومسكي رؤية هامة إلى داخل التفاضل الأخلاقي : الأعمال البربرية ممقوتة بغض النظر عمن ارتكبها، لدينا التزام خاص أن نقضي "نوقف ؟"
الأعمال التي نتحمل مسؤوليتها - تشومسكي هنا يعني :أن لديه التزام أخلاقي خاص كمواطن أميركي يجب أن يوقف ويدين الأعمال الوحشية التي تقوم بها الدولة الأميركية قبل غيرها ع ل - الكثيرون ممن يصفون أنفسهم بمفكرين في أستراليا والولايات المتحدة قالوا القليل حول مذابح تيمور الشرقية - التي ارتكبها العسكريون الاندونوسيون المدعومون من واشنطن. ع ل - مفضلين على ذلك شجب بول بوت في كمبوديا، حيث لم يكن لديهم أي أمل في إنهاء الأعمال الوحشية للخمير الحمر). ثم تناقش كارول روزنبيرغ قضية على درجة كبيرة من الأهمية والتعقيد وهي هل يمكن للتنويري الجذري أن يتضامن مع مَن يتعرضون للاضطهاد والقمع رغم أنه يختلف معهم في الموضوع الذي اضطهدوا وقمعوا بسببه؟
فتجيب أن تشومسكي كان يفعل ذلك بنزاهة وقوة وتأتي ببعض الأمثلة على ذلك فتكتب (تشومسكي يعيش سياسته، هذا مثبت بكل المقاييس في دفاعه عن حرية التعبير- لمن يختلف معهم بعمق ع ل - وأنا أشير طبعا إلى قضية الأستاذ الجامعي روبرت فاوريسون الذي منع من تعليم الأدب الفرنسي في جامعة ليون ولم يحمَ من الهجمات ضده بسبب آرائه حول المحرقة "الهولوكوست". وقد أحضر فاوريسون أمام المحاكم لإنكاره وجود غرف الغاز - النازية التي قيل إنها استعملت لإبادة اليهود في أوروبا ع ل- فبادر خمسمائة شخص من بينهم تشومسكي إلى توقيع عريضة تدافع حريات فاوريسون المدنية. بادرت الصحف فورا، ولتصفية وحسم نقاط قديمة، لتسمية العريضة بعريضة تشومسكي، واتهمته بتأييد فاوريسون. كان المفقود في هذه الهيستريا هو المبدأ الواضح الذي يؤيد حق الشخص في التعبير عن آراء محددة ومستقلة عن الآراء المعبر عنها فعليا. وبالتالي يمكن للمرء أن يدافع عن حرية سلمان رشدي في كتابه "الآيات الشيطانية" دون الاتفاق مع محتويات ذلك الكتاب، أو حتى دون الحاجة لقراءته.
وقد كتب تشومسكي مقالة يوضح فيها هذا الفرق - بين الدفاع عن حق الإنسان في التعبير عن رأيه دون الحاجة للاتفاق معه في رأيه هذا ع ل- ولكن تشومسكي صنف من قبل أعدائه كناكر للمحرقة. المصدر: من يمتلك العالم. ص354 وما بعدها) *ذكَّرني ما كتبته روزنبيرغ هنا، بموقف الراحل هادي العلوي وعدد قليل من المثقفين التنويريين العرب من سلمان رشدي وروايته تلك، حين انقسم المشهد إلى مدافعين عنه بالمطلق ودون تحفظات، ومهاجمين له يؤيدون قتله، ولكن بعض المثقفين التنويريين من بينهم العلوي اتخذوا موقفا قريبا جدا من هذا الذي يتخذه تشومسكي ورفاقه، وهو الدفاع عن حق الإنسان في التعبير عن رأيه حتى إذا كنا مختلفين معه، ونقد هذا الرأي بذات الأسلوب الذي اعتمده الكاتب.
عمليا، أشار العلوي بوضوح إلى وقوع رشدي في براثن الاستشراق المعادي للإسلام والثقافات الشرقية في مضامين كتابه، ولكنه رفض بحزم الفتوى الخمينية الداعية لقتل الكاتب. وقد كتب العلوي في رده على الراحل صادق جلال العظم الذي كان من أشد المدافعين عن رشدي آنذاك، كتب ما معناه: أن رشدي ألَّفَ كتابا أدبيا يحمل رأيه الذي أختلف معه فيه، ولكن يجب أن يتولى الكتّاب وأهل الرأي الرد عليه بأسلوبه ذاته فصاحب القلم يرد عليه بالقلم لا بالرصاص والقمع... ع ل.
9- تشومسكي الآخر.. بقلم تاكيس ميكاس: (إن اليسار الأوروبي يحب تشومسكي للأسباب نفسها التي يكرهه من أجلها اليمين: آراؤه حول السياسة الخارجية، الناقدة بشكل قاس للولايات المتحدة وإسرائيل. في عيون اليسار، فإن تشومسكي بطل المضطهدين الذين يعانون في النظام العالمي الليبرالي الجديد، الذي تؤيده الولايات المتحدة والشركات المتعددة الجنسية. وفي عيون اليمين هو لغوي ومدافع وقح عن كاسترو وبول بوت وأي طاغية من العالم الثالث. ما يجعل تشومسكي فريدا في نقده للنظام الاقتصادي الرأسمالي هو أنه ينطلق من المفكرين الليبراليين الكلاسيكيين في عصر التنوير فأبطاله ليسوا لينين وماركس وإنما آدم سمث وفيلهيلم همبدولت وقد حاول أن يثبت أن السوق الحرة التي تخيلها هؤلاء المفكرون لم تتحقق أبدا في العالم، وبدلاً منها حصلنا على تواطؤ الدولة مع المصالح الخاصة - للرأسماليين- وأكد تشومسكي تكرارا أن الهجمات على الديموقراطية وعلى السوق من قبل الشركات متعددة الجنسية تسير يدا بيد، وكما قال ( اقتصاد السوق الحر هو الاشتراكية للأغنياء. الأسواق للفقراء وحماية الدولة للأغنياء). المصدر : من يمتلك العالم - تشومسكي ص 398 . *اقتصاد السوق الحر: هو اقتصاد الليبرالية المفتوح وصورة منفلتة من الاقتصاد الرأسمالي. إنه اقتصاد السوق المفتوحة، والقائم على مفهوم"حرية الفرد"، والخاضع فقط لشرطي العرض والطلب، والمتحرر من التدخلات الخارجية وخاصة تدخل الدولة - إلا حين ينهار فتتدخل لإنقاذه وأنقاذ أصحابه المفلسين- ويقوم على تحرير الاسعار من كل القيود أو التدخلات إلا تلك التي تفرضها المنافسة الحرة. ويعتمد بشكل أساسي على الملكية الخاصة وبيع القطاع العام إلى الخاص بأسعار بخسة "الخصخصة". وقد طبق هذا الاقتصاد على نطاق واسع في عهد المحافظين الجدد في عهد تاتشر وريغان ويلتسن وقد انتهى هذا النظام إلى الفشل الذريع في الأزمة المالية العالمية الحادة نهاية سنة 2008 وكاد يؤدي إلى انهيار النظام الرسمالي العالمي، و لكن بعض الدول التابعة والفاقدة للاستقلال السياسي تصر على الأخذ به حتى الآن.ع ل
10- هل يكره تشومسكي أميركا؟ ولماذا وصفه أحد الصهاينة بـ"آية الله مريض بكره أميركا"؟ ( بهذا المقتبس ننهي قراءتنا الاقتباسية لكتاب " من يمتلك العالم" لنعوم تشومسكي ولكن قراءتنا في كتاب المعلم الراحل إدوارد سعيد " خيانة المثقفين " ما تزال مستمرة. شكرا لكم جميعا على المتابعة والتعقيبات طيلة الفترة الماضية على هذه المقتبسات ع ل). الجواب : لا ونعم، كيف ذلك؟ كتب أنتوني غانكاريسكي (هل يكره تشومسكي أمريكا كما قال شون هانيتي؟ هذا يعتمد على تعريفك لأميركا. إذا عرَّفت أميركا بحضورها العسكري الكوني فإن تشومسكي يحتقرها حتى النخاع، لكن لو عرَّفت أميركا كمجموع شعبها، وطموحاتهم وآمالهم في المستقبل، فعندها لا يمكن القول أن تشومسكي يكره أميركا) و يؤكد غانكاريسكي ( أن تشومسكي يحترم حق هؤلاء الذين يكومون الافتراءات على عظامه الهرمة في الكلام والتعبير عن الرأي) حتى أولئك الذين شتموه بأقبح الأساليب والعبارات، وهذه بعض الأمثلة ( ديفيد هورويتز، وهو إصلاحي يميني انقلب الى شريك لحزب الليكود - الإسرائيلي - يصف تشومسكي كـ " آية الله مرضية للكره " مريضة بالكره ؟" المعادي للأمريكيين وقائد الطابور الخامس اليساري الخائن". أما ألان تايلور فقد كتب بعد لقاء جمعه بتشومسكي في مكتبه أن تشومسكي يعرف عن أميركا الإيجابية، اميركا الشعب أكثر مما يظنه خصومه وهو يفكك الصورة النمطية التي رسمها الإعلام السائد والبرامج الخاصة للنظام والتي ريد بناء ما يسميه "الموافقة الجماعية" ويتطرق تايلور إلى العديد من الاحصائيات وعمليات الرصد العملي التي تقوم بها مؤسسات رصينة لاهتمامات ومشاغل ومواقف الجمهور الأميركي ويؤكد ان هذه الدراسات والإحصائيات تهمل أو تخنق او تنشر على نطاق ضيق أو بتعبيره هو " يتم إخمادها" لمصلحة تصعيد تيار التفاهة والسطحية والقضايا التي يريد الحزبان المهيمنان على المشهد السياسي الأميركي تصعيدعا.
يضرب تايلور بعض الامثلة على تلك الحقائق التي يرصدها تشومسكي ومؤسستان كبيرتان للرصد ومن ذلك : -بيَّنت التقارير - الرصدية - أن الجمهور الأميركي يعارض بشدة استخدام القوة إلا في شروط وثيقة الأمم المتحدة. فيعلق تشومسكي: (وفي وجه الهجوم الوشيك، الشعب الأميركي يريد الأمم المتحدة أن تتسلم القيادة في الأزمات وليس الولايات المتحدة).
-أغلبية ساحقة من الأميركيين تؤيد اتفاقية الأمم المتحدة "كيوتو" – للحد من ظاهرة التغيير المناخي وتصاعد الغازات الدفيئة "الاحتباس الحراري العالمي" بسبب الصناعات الحديثة والتي وافقت عليها جميع الدول في العالم - 183 دولة أصبحت لاحقا 200 دولة- ورفضتها أميركا التي تقذف مصانعها ربع الغازات الدفيئة السامة الى الفضاء. ع ل - . -غالبية الشعب الأميركي تفضل التخلي عن حق النقض الفيتو في الأمم المتحدة لتستطيع الولايات المتحدة السير مع الأغلبية. -الأغلبية نفسها تؤيد الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية وتعتبرها قضية أخلاقية بالنسبة للحكومة ولكن الحكومة الأميركية ترفضها رفضا جازما.
ويختم تايلور كلامه بالآتي ( جاءت الانتخابات وعانى الشعب من وهم قاتل. لم يفهموا ماذا يمثل المرشحان وكان الناس يقترعون على مجرد تخيلات.الانتخابات تديرها " مؤسسات وشركات" صناعة العلاقات العامة: إنهم نفس الاولاد الذين يبيعون معاجين الأسنان. أنت لم تتحدث عما يمثله المرشحان ، كل ما لديك هو جون كيري يصيد البط و يركب دراجته النارية و جورج بوش يتظاهر بأنه ولد بسيط يقطع الأخشاب ويعتني بقطيع حيواناته ويلعب الفولف. وهل يلعب الغولف؟ لا، كلا، لا تدفع، ذلك كثير جدا. يفترض انه فتى عادي، القِ نظرة عليه! أكمامه مشمرة وهو يستعد للعودة إلى المزرعة. ولكنك لا تقدمه وتعرضه كما هو: غلام ملوث من منطقة "ييل" ولو لا والديه لما وصل إلى أي منصب! من يمتلك العالم ص 388 ) أحد نقاد تشومسكي وهو اليساري تود جيتلين من "اليسار الإمبريالي" قال عنه (أمضى تشومسكي وقتا قليلا على وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001 قبل أن يطلق تلاوة متخشبة لأعمال وحشية نفذتها الحكومة الأميركية وحلفاؤها). ولكن تشومسكي يدافع عن حق نقاده هؤلاء في الكلام والتعبير عن آرائهم فكتب ( إذا لم نؤمن بحرية الكلام لهؤلاء الذين نزدريهم، فنحن لا نؤمن بالحرية بتاتا).. حرية الكلام نقطة غير قابلة للتفاوض بالنسبة لتشومسكي.
المصدر: من يمتلك العالم ص 296 و 297 بتصرف أسلوبي طفيف).
انتهت المقالة.