من الخطأ القول إن الذاتي والموضوعي يمتزجان في مهنة شائكة كالتعليق على مباريات كرة القدم ، فبين الاثنين مسافة شاسعة ينبغي على المعلق أن يراعيها ويستذكرها كلما سرح بخياله أو حاول الرقص على حبال التشويق والإثارة.
كان أستاذ التعليق العراقي والعربي مؤيد البدري يختزل هذه المسافة حين ينقل إلينا وصفا إذاعيا أو تلفزيونيا لمباراة يخوضها طرف عراقي .. كان الرجل يتخلّى عن الموضوعية بحكم وظيفته الأخرى وهي عضوية أو أمانة سر أو رئاسة اتحاد الكرة أو حتى من موقع الخبير المُـلم بشؤون الكرة وشجونها ولا يريد لأي لاعب أو فريق عراقي أن يتلكأ..
لهذا كان الرجل يتعامل مع المباراة وكأنه المسؤول المباشر عن الفريق، وقد كان الجميع يلتمس له أعذارا شتى!
حتى عندما كان البدري يتجاوز كل الحدود والكوابح والمَصدّات ويخاطب اللاعبين في الملعب على نحو مباشر، كان الناس يُعجبون بطريقته (كمعلق – مسؤول) إن جازت هذه العبارة .. وفي أحيان (تاريخية) كان البدري يخرج عن طوره تماما ويهاجم لاعبي منتخبنا حين ينحدر مستواهم وتشعر في تلك اللحظات أن البدري يتخلى عن فريقنا وينحاز للفريق الذي يواجه العراق، كما حدث مثلا في مباراتنا مع مصر في نهائي كاس فلسطين عام 1972 تلك المباراة التي شهدت فاجعة عراقية تمثلت بالخسارة بثلاثة أهداف مع مستوى هزيل للاعبينا الذين كان البدري ينتقدهم دون هوادة كما فعل مع الحارس الراحل ستار خلف، وكان في مقابل ذلك يكيل المديح المُغالى فيه للمصريين من باب التنفيس عن آلامه كمسؤول لا كمعلق!
الأمر نفسه عشناه في وقائع أخرى لاحقة أهمها خسارتنا الموجعة أمام الكويت في ختام دورة الخليج الرابعة في الدوحة عام 1976 .. لقد كان الأستاذ البدري في غاية (الذاتية) ولم يفسح أي مجال لـ (الموضوعية) أن تؤطر تعليقاته .. كان غاضبا طوال المباراة! قلنا إن المسؤولية المباشرة كانت تدفع البدري إلى التخلي عن الموضوعية التي يقتضيها فن التعليق ..
لكن العجب العجاب يجري حين يحاول كل معلق أن ينزع رداء الحيادية في أية مباراة ويمارس (التعليق) كمشجع في مدرجات الدرجة الثالثة لا أكثر ولا اقل .. الشاهد الأخير ما جرى خلال المباريات التي شاهدناها عبر شاشة التلفزيون، وهي مباريات من الدوري العراقي، وأطرافها عراقية، وحكامها عراقيون، وكل ما في فضاء الملعب يوحي بهوية عراقية خالصة للمباريات!
وما فعله المعلقون في أكثر من مناسبة أنهم خرجوا عن طورهم وحيادهم وموضوعيتهم خروجا تاما ، وراحوا يعبرون عن نوازع وانتماءات شخصية لا يجوز إعمامها على المشاهدين، ولا يصح أن تظهر على شاشة عراقية خالصة .. وأنا هنا اتحدث في العموميات لعلها تنفع، أما التفاصيل فأحتفظ بها ولا أريد عرضها هنا .. فالغاية أن نعود إلى وعينا وحياديتنا وألا نكون سببا في فرض أي لون من ألوان الفرقة بين جمهورنا وأنديتنا التي ننتسب اليها أو تنتسب إلينا!
الحياد مطلوب .. والموضوعية مطلب .. ولا يصح أن يتصور الزملاء ، في مباراة محلية ، أن أيّا منهم وكأنه البدري في مباراة دولية طرفها منتخب العراق ، وطرفها الآخر فريق غريب أو أجنبي!